توطئة


شعارنا: الكتابة للجميع فيما يُفيد الجميع.. وليس المهم أن نتفق في ما نكتب بقدر ما تهم الفائدة المُستخلصة والمُستنبطة من ذلك.

للمشاركة بمقال، رأي، تعليق أو أي شيء مما أردتموه، ما عليكم سوى مراسلتنا عبر البريد الإلكتروني التالي:
espaciosaharaui@yahoo.es


الاثنين، 20 أغسطس 2012

حين بلغت النهاية


بقلم: مصطفى عبد الدايم (المصدر: UPES)
دفعني من يدعونهم في السجن بالحراس أو (أصحاب الوقت) وسط العتمة ثم أحكموا إغلاق الباب؛ تسمرتُ في مكاني فقد كنت كالأعمى تحت تأثير الانتقال المُفاجئ من ضوء الشمس الباهر إلى الظل السميك يرخي ستائره الغامضة.

وراء الباب كنتُ أسمع كلمات الحراس النابية، ثم وهي تبتعد متوعدة بإنزال عقاب شديد لو سمع مني همس أو أصدرتُ نفساً.. لبثتُ متسمراً في مكاني مكرراً فتح عيني وإغلاقهما، في محاولة لجعل المكان يكشف عن تفاصيله.. كان الهواء فاسداً يَرشحُ بروائح آدمية كريهة مُشبَعة بروائح الأزبال وأعقاب السجائر.. خطوتُ في الظلام إلى الأمام رغم أني لم أتبين بعد شيئاً، ولستُ أدري سبباً يجعلني دوماً أتقدم رغم أني لا أعرف موطأ لقدمي.. في هذه المرة لم أكد أفعل حتى اصطدمتُ بأجساد بشرية أصدرتْ أصواتاً تـُحذرني من التقدم أكثر: انتبه أين تمضي؟
توقفتُ متسائلا: أين أنا؟

قادني السؤال وهذا الظلام السميك يحضنني للتوقف عند نقطة قصية، حيث يتقاطع الحزن المرفرف فوق جبال عاتية يقطع على مهل أوصال الذات المنتصبة كقوس الفضاء الوهمي تتلألؤ ألوانه، وهذا الفرح المنساب في العروق جداول سحرية تغري بالاستمرار في تخطي كل الحدود وإجبار الذات على تخطي حواجزها مهما كان اجتيازها لحواجزها موجعاً ومؤلماً.

كنتُ وحيداً تغمر ناظري هذه الغشاوة الفظيعة التي تحول بيني وبين أن تتكشف أمامي هذه الغرفة، أو أستطيع معرفة لمن هذه الأصوات التي تنبع من هذه العتمة المخيفة، ومالي أحس نظراتها الحادة تنهش قامتي كأنها تصدر عن حيوانات متوحشة..؟

أردتُ أن أنتهك حرمة هذا الصمت المُريب القائم بيني وبينهم جداراً منيعاً، لكن الكلام يبس في حلقي متوجساً ربما من جهله التام بهذه الكائنات الدفينة في هذه الغرفة التي يختلط في فضائها الهواء الفاسد بفيض النفور الطاغي على حواسي.

ظللتُ واقفاً تتصاعد في أعماقي أدخنة الغيظ وهذا الشعور المقيت بالحرج والذي يتحول كسكين صدئ يشق صدري ويتوغل فيه بمهل محدثاً ألماً بطيئاً يتعاظم شيئاً فشيئاً.
- ما عساي أفعل؟
فدرس السجن لم نأخذه في المدرسة، لم يعلمنا أي من معلمينا كيفية التعامل داخل السجن، ولا حدثونا عن الأوضاع داخلها، فمثل هذه التجارب تـُعاش ولا تـُلقن.

من فرط التعب تهالكتُ على الأرض، وتقلصت في مكان سقوطي رافعاً ركبتي إلى مستوى ذقني جاعلاً منهما وسادة طرحت عليها رأسي، محوطاً إياهما بيدي لتثبيتهما، ثم أغمضتُ عيني وغافلت اللحظة الخانقة بتذكر لحظات تبدو الآن كأحلام لذيذة استفقت منها على صوت جلبة عند الباب، ثم قرقرة المفتاح تلاه هُجومُ ضوء كسرته ظلال فارعة الطول؛ امتدت أيدي اقتطعتني من مكاني بقوة لا قبل لي على مقاومتها.

عبر ساحة غارقة بشمس دافئة اقتادوني مكبل اليدين إلى الوراء.. كانوا في واقع الأمر يَجروني لاختلال توازني بفعل القيود من جهة ولأنني لم أعد أقوى على الحركة من جهة أخرى.

في غرفة فسيحة تفوح منها رائحة عطرة طرحُوني أرضاً على بُعد أمتار من مكتب يجلس خلفه شخص بدين يُركز بصره على السقف ووراءه يقف بضعة أشخاص بزي حراس السجن يتبادلون نظرات ملغمة وإشارات خاطفة تفوح شراً؛ وفجأة كأنما أفاق من غيبوبة صرخ فيهم الرجل البدين: إذا لم تكنسوا بهذا "عدو الملك" أرضية الغرفة، أمسح بكم الأرض.

تدفقتْ ساعتها أفكارٌ مرهقة ومدوخة أصابتني في كل مكان ونقلتني بسرعة من حالة إلى أخرى، قبل أن تنتزعني بشكل مباغت نحو هوة سحيقة مرادفها في اللغة البسيطة المتداولة بين العموم "النهاية".

إزاء اليد القوية التي كانت تهزني هزاً شعرتُ بالرغبة الغريبة في قطعها، لبثت مستلقياً على الأرض أحدجه بنظرة ساخطة لم يعد بإمكاني كتمانها، هممتُ بالنهوض لكني شعرتُ بالدم يتجمد في عروقي، وبثقل في جسدي يشدني إلى الأرض.. تمطى الرجل البدين وتثاءب ثم سأل الحراس الناظرين إليّ في ذهول: لم يمتْ هذا المجرم.. خذوه للكاشو "زنزانة عقاب انفرادية".

توثبتْ شفتاي للنطق ولكني لم أستطع، فقد شعرت بشيء ما ينحشر في أعماقي، وبعد هُنيهة بسائل يندلق من فمي وخدر بطيء يدبّ في جسدي، وقلتُ في نفسي: لعلها هذه المرة هي النهاية الحقيقية.

ليست هناك تعليقات: