- مقدمة:
قبل الخوض في "انتفاضة الإستقلال"، لابد أولا من إعطاء تعريف ولو موجز للإنتفاضة بشكل عام؛ فـ "الإنتفاضة"لغة هي: التحرك، فقد جاء في معجم لسان العرب لـ "ابن منظور": نفضت الثوب والشجر إذا حركته لينتفض؛ وكذلك، جاء في المعجم الوسيط: انتفض الشيء بمعنى: تحرك واضطرب، وفلان ينتفض من الرعدة؛ وهذا يعني أن الانتفاضة، هي حركة واضطراب.
أما في الإصطلاح الحديث، فهي ذلك التحرك الشّعبي الجماهيري الهائل من أجل قضايا التحرر والإنعتاق، ورفض واقع الإحتلال والإستعمار.
وقد شهد العالم عدة أمثلة عاشتها شعوبه عبر هذا المعنى أو المثال (أي الإنتفاضة)، وليس ببعيد عن ذلك ما يعيشه أبناء وبنات الشعب الصحراوي من انتفاضات متتالية من أجل رفع الظلم والهيمنة والإحتلال المغربي؛ وتأتي "انتفاضة الإستقلال" دليلاً قاطعاً وتتويجاً لبداية نهاية عمر الإحتلال.
لقد أتى تحرك الجماهير الصحراوية بالمناطق المحتلة وجنوب المغرب والجامعات المغربية وبكل مواقع الفعل والنضال، تحركاً وزخماً نضاليّاً سلميّاً حضارياً اندلع منذ 21 مايو 2005، وامتد عبر كل أرجاء الوطن الصحراوي المحتل انطلاقا من العاصمة العيون، حيث كانت بداية الشرارة من أمام "السجن لكحل" الرهيب أين تجمع العديد من أبناء وبنات الشعب الصحراوي احتجاجاً على ترحيل المعتقل السياسي الصحراوي "سيد أحمد هدي الكينان"، لتعم باقي مدن ومداشر الوطن، وكذا مختلف المواقع الجامعية داخل المغرب نفسه، الشيء الذي أماط أقنعة الديمقراطية والحُريات التي طالما تشدق بها النظام الملكي الجديد القديم في السنوات الأخيرة، خاصة منذ اعتلاء الملك "محمد السادس" عرش الدولة المغربية 1999، إلا أن قوات هذا الأخير سرعان ما أظهرت خفاياه ودسائسه، وسرعان ما أكدت أن لسان الحال أصدق من لسان المقال.
ولعل المحطات الأخيرة بتدخل قوات القصر لردع "انتفاضة الإستقلال" بكل أساليب العنف والوسائل القمعية الخطيرة لخير دليل على ذلك؛ إلا أن أبطال وبطلات "الإنتفاضة" يومها كان لهم رأي جديد هذه المرة، تحول من رأي كامن بفعل التضييق والخناق والإرهاب المُمنهج، إلى رأي صريح معبر عنه بصوت عال واضح وضوح الشمس في كبد السماء بفعل الإستجابة لنداء الإنتفاضة الذي دوى عاليّاً ليصل إلى كل بقاع العالم، كاشفاً سيّاسات ومغالطات الدولة المغربية وخروقاتها السافرة لحقوق الإنسان الصحراوي فوق أرضه المغتصبة ومبينا أيضاً أنه قد حان الوقت لتعود المياه إلى مجاريها، قد حان الوقت للفصل بين الحق والباطل، قد حان الوقت لإنهاء مُعانات الأرض والشعب الصحراوييْن، قد حان الوقت للعودة إلى الوطن ولمّ الشمل بين أحضانه، قد حان الإستقلال؛ ولم تأتي تسميتها "انتفاضة الإستقلال" عبثا هكذا، بل جاء الإسم لأنه حقاً حان موعد الإستقلال؛ ولم يعد هناك من إسم بعد الإستقلال، مما يبرهن أنها بحول الله وقوته آخر انتفاضة يخوضها الشعب الصحراوي قبيل الإستقلال.
- انتفاضة الإستقلال سليلٌ وامتدادٌ للعديد من الإنتفاضات:
لم تكن "انتفاضة الإستقلال" أول انتفاضة يخوضها الشعب الصحراوي، بل جاءت امتداداً وسليلاً للعديد من الإنتفاضات التي سبقتها على مرّ تاريخ مقاومة هذا الشعب، هذه الإنتفاضات التي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "انتفاضة الزملة التاريخية 17 يونيو 1970"، تلك الإنتفاضة التي اندلعت تتويجاً لمرحلة طويلة من نضال الحركة الوطنية الصحراوية التي تمخضت عن ميلاد وإنشاء "المنظمة الطليعية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" أو "منظمة تحرير الصحراء" على يد مجموعة من المواطنين الصحراويين الأشاوس بقيادة الفقيد "محمد سيد ابراهيم بصيري"، هذه الإنتفاضة التي واجه فيها المستعمر الإسباني آنذاك جموع المنتفضين الصحراويين بشتى أنواع التنكيل والتعذيب والإختطافات، حيث راح ضحية ذلك التدخل الهمجي "محمد سيدابراهيم بصيري" مجهول المصير لم تقدم عنه الحكومة الإسبانية المسؤولة أي شيء حتى الآن رغم مطالبة إلحاح المنظمات الحقوقية العالمية وجمعية أولياء المعتقلين والمفقودين الصحراويين بالكشف عن مصيره.
واستمراراً لملحمة الزملة التاريخية وعلى نهج رفض الشعب الصحراوي العيش تحت سيطرة أي قوة استعمارية مهما كان نوعها، تلت ذلك انتفاضة "طان طان" 1972، هي الأخرى وجدت قمعا عنيفاً من المستعمر، حيث اعتقل العشرات من المواطنين الصحراويين من مختلف الأعمار والأجناس، كما عذب وشرد الكثير، ورغم آلة القمع المدمرة التي قوبلت بها، إلا أن ذلك لم يثني هذا الشعب عن نضاله وكفاحه المرير من أجل حقه، بل إن ذلك لم يزده إلا عزماً وإصراراً على التمكين والتمكن، وبالتالي تنظيمه وتأطيره تحت ممثل شرعي وحيد أسس في الـ 10 مايو 1973 "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب".
وبعد تأسيس "البوليساريو" بعشرة أيام فقط كانت بداية شرارة الكفاح المسلح ضد جحافل الإستعمار الإسباني في 20 مايو 1973 عندما خرج المناضلون الصحراويون في عملية مسلحة قوامها وعتادها مقارنة بما يملكه العدو آنذاك هو فقط معنويات الشعب المرتفعة والإيمان بعدالة القضية وضرورة رفع الحيف والظلم الذي يجسده المستعمر.
وبعد اقتناع "إسبانيا" أنها لن تستطيع مقاومة وإرادة الشعب الصحراوي، خرجت بعد عملية خبيثة جسدتها "اتفاقية مدريد المشؤومة" لتدخل في عملية تسليم واستلام مع النظام الملكي المغربي والنظام الموريتاني آنذاك (نظام ولد دادّاه)؛ ليدخل الشعب الصحراوي مأساة جديدة ومعاناة كابدها منذ الوهلة الأولى من قدوم المحتل المغربي بتاريخ 31 أكتوبر 1975، حيث جلب هذا الأخير كل أنواع البغض والحقد، ومارس كل أنواع الإنتهاكات والخروقات السافرة لحقوق الإنسان الصحراوي، المتمثلة أساساً في التقتيل الفردي والجماعي، الرمي من الطائرات، قنبلة المدنيين بالأسلحة المحرمة دولياً، حرق الخيام وإتلاف الممتلكات العامة، الإغتصاب، التشريد، الحرمان، إجهاض الحوامل وإثكال المرضعات، إلى غير ذلك من الجرائم والإنتهاكات.
ورغم كل ذلك فلم يستطع إرهاب الدولة المغربية ثني الشعب الصحراوي عن المطالبة بحقه المشروع في الحرية والإستقلال، بل ظل هذا الشعب رغم قلة عدده وضعف إمكانياته صامداً واقفاً حجرة عثرة في وجه المحتلين التوسعيّين.
ثم توالت الإنتفاضات تلو الإنتفاضات، والبُطولات تلو البُطولات، إلى أن جاءت "انتفاضة 1987" التي شهدت اختطافات بالجملة وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان الصحراوي الأعزل فوق أرضه المسلوبة، ذنبه الوحيد في ذلك أنه خرج في مظاهرات سلمية لاستقبال "البعثة الأممية لتقصي الحقائق في الصحراء الغربية" أثناء زيارتها للإقليم، حيث استقبلها الشعب الصحراوي بالعاصمة المحتلة "العيون" بالأعلام الصحراوية والزغاريد والشعارات الرافضة للإحتلال والمنادية بالإستقلال، الشيء الذي لم يرق لسلطات المحتل التي تدخلت كالمعتاد بالوسائل القمعية المعتادة.
وفي طريق التحرر والكفاح النزيه الحضاري كانت للشعب الصحراوي وقفة مع انتفاضة أخرى هي "انتفاضة 1992" التي انطلقت شرارتها في 24 سبتمبر 1992 من "آسا"، هذه الإنتفاضة التي كانت دليلاً قاطعاً على وحدة وصلابة الشعب الصحراوي في مواجهة الإحتلال، وعلى إثرها قامت سلطات الإحتلال بتعزيز المنطقة بأجهزة أمنية تفوق ساكنة المدينة بالأضعاف المضاعفة، حيث قامت هذه الأجهزة اللعينة بمواجهة المنتفضين المتظاهرين، واعتقال العديد من روّاد هذه الملحمة البطولية ممن عانوا السجون والمعتقلات السرية بـ "إنزكان" المغربية وغيرها من المعتقلات والمخابئ السرية الرهيبة.
لتعقبها مباشرة "انتفاضة 1993" التي شهدت نوعاً جديدا من الغطرسة المخزنية المغربية، حيث تمت محاكمة مجموعة من الشباب الصحراوي بينهم قاصرين، حُوكموا محاكمة عسكرية، رغم أنهم مدنيين طلاب في الإعداديات والثانويات ولاعلاقة لهم بالعسكر لا من قريب أو بعيد؛ وهذه المجموعة هي المعروفة لدى الرأي العام بـ "مجموعة الستة" التي كان من ضمنها الشابة الصحراوية المرحومة "كلثوم أحمد لعبيد الونات" التي راحت فيما بعد ضحية حادث سير مفبرك في الطريق الرابطة بين مدينتي طانطان/ جنوب المغرب والسمارة المحتلة.
وأمام إصرار الدولة المغربية على تعنتها ومُماطلاتها لم يجد الشعب الصحراوي الأعزل من حل أمام صمت العالم إلا أن يُواصل نضاله السلمي الحضاري وخوض الإنتفاضات المتتالية مواصلة للدرب، حيث اعتصم مرة أخرى السكان الصحراويين بمنطقة "لمسيد" ضواحي "طانطان" في انتفاضة 1997 عندما اعتصموا اعتصاماً دام أربعة أشهر تدخلت خلاله قوات القمع المغربية بمختلف فصائلها بعنف شديد ضد المعتصمين يومي 25 و 26 من فبراير 1998 لفض وقمع الإعتصام، إلا أن الأبطال الصحراويين أصرّوا على الحيلولة دون ذلك، مما نتج عنه صدامات قوية بينهم وبين أجهزة القمع المغربية، سقط جراءها العديد ما بين مصاب ومعتقل في صفوف الصحراويين ممن بصمُوا في السجل الذهبي لتاريخ نضال الشعب الصحراوي المكافح.
ولم يمض الكثير من الوقت حتى ضربت الجماهير الصحراوية موعداً جديدا مع "انتفاضة 1999 المجيدة"، هذه الإنتفاضة التي خرجتْ فيها كل شرائح المجتمع الصحراوي لتظهر لملك المغرب حديث النشأة "محمد السادس" أنها موجودة ودائماً في مُواكبة مستمرة للأحداث ورفض تام لكل أنواع الظلم والطغيان، حيث تميزت الإنتفاضة هذه المرة في سابقة من نوعها بتجنيد السلطات المغربية لمليشيات من المستوطنين المغاربة إلى جانبها لقمع المتظاهرين الصحراويين وترهيبهم والتنكيل بهم؛ وقد نتج عن ذلك اعتقال واختطاف وتعذيب العشرات من الصحراويين وتقديمهم للمحاكمات الصورية بملفات مطبوخة بإحكام وعقوبات سجنية تراوحت بين الشهر والخمسة عشر سنة سجناً نافذاً.
وهكذا بقيت أشكال المقاومة الحضارية السلمية العنوان الأبرز لنضالات الشعب الصحراوي الأعزل المؤمن بنبل و عدالة قضيته، وأنه لن يضيع حق وراءه مطالب.
- انتفاضة الإستقلال.. السبيل نحو الإستقلال:
لقد اندلعت كما هو معلوم "انتفاضة الإستقلال"واشتعل فتيلها في الـ 21 من مايو 2005، نتيجة لتراكمات الأساليب القمعية والترهيبية المُمنهجة من طرف الدولة المغربية؛ ولقد كان ترحيل المعتقل السياسي الصحراوي "سيدأحمد هدي الكينان" من السجن لكحل بالعيون المحتلة بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، حيث أن الرّد الهمجي لسلطات الإحتلال على المظاهرة السلمية التي نظمتها عائلته والنشطاء الحقوقيين الصحراويين، إضافة إلى الجماهير الصحراوية أمام السجن المذكور، هذا الرد الهمجي الذي كان السبب في جعل الرأي العام الصحراوي بالمناطق المحتلة وجنوب المغرب يتحول من الكامن إلى الصريح المعبر عنه، ليتجاوب الصحراويون مع نداء الإنتفاضة الذي دوى صوته عاليّاً في آذان كل أرجاء المعمورة، هذه الإنتفاضة المُباركة التي نسبت في تسميتها إلى "الإستقلال"، ولم يكن الإسم هكذا بمحض الصدفة ، بل لأنها جاءت لتكون خاتمة لجملة من الإنتفاضات والمُقاومات والنضالات التي قام بها الشعب الصحراوي على طول مراحل كفاحه ضد الغزاة الدخلاء؛ هذا الشعب الذي انتفض بمختلف شرائحه (من طلبة، معطلين، حقوقيين، عُمّال، شيوخ، نساء، رجال، وأطفال) الكل أراد أن يجعل من "انتفاضة الإستقلال" الحد الفاصل بين الدولة المغربية والدولة الصحراوية، من خلال الرفض القاطع للإحتلال والمماطلات والإنتظار المُمل الذي انتظر من خلاله الشعب الصحراوي أكثر من ثلاثة عقود من الزمن في ظل الممارسات القمعية والإنتهاكات الجسيمة المرتكبة في حقه.
- الإنتفاضة برهان الشعب على تحقيق الذات ورفع التحديات:
يتجلى لبّ وجوهرُ "انتفاضة الإستقلال" في مغزاها السيّاسي، بل تبقى أحسن وسيلة لتمرير خطاب سياسي متحرر، خاصة في ظل الواقع المعاش حاليّاً، والمتمثل في:
ـ جمود مخطط التسوية الأممي.
ـ الموقف المغربي المتعنت الرافض لأي حل يتضمن تقرير المصير.
ـ عجز المنتظم الدولي عن فرض احترام قراراته.
ـ تفشي انتهاكات حقوق الإنسان الصحراوي في الأراضي المحتلة من الصحراء الغربية وكل المواقع التابعة للإدارة المغربية.
ـ الحصار الإعلامي والطوق العسكري المضروب على المنطقة.
ورغم كل ذلك، فلقد حققت "انتفاضة الإستقلال" في مشوارها القصير منذ اندلاعها العديد من المكاسب، سواءٌ على المستوى المحلي أو الخارجي، وأثبتتْ بالفعل وبجدارة قدرة الشعب على الفعل النضالي الحضاري السلمي، حيث برهنتْ وبفاعلية مطلقة نوايا الشعب الصحراوي الحسنة في مدّ يده نحو السلم والتمسك به رغم ما يُلاقيه من قمع وتنكيل، وأثبتت للعالم أجمع رغم التعتيم الإعلامي والتضييق المفروض من طرف المحتل أن الشعب الصحراوي شعبٌ مسالمٌ يُحبّ السلم ويسعى وراءه، وهذا لا يعني بتاتاً تخليه عن الدفاع عن النفس الذي تشرعه المواثيق والأعراف الدولية، بما في ذلك العودة في أية لحظة إلى الكفاح المسلح إذا دعت الحاجة إليه، كما سبق أن خاضه جيش التحرير الشعبي الصحراوي (1975 ـ 1991) وسجل من خلاله صفحات مجد وخلود بصمتها الذاكرة الجماعية الصحراوية.
ورغم محاولات المحتل المغربي لإقبار "الإنتفاضة" بوصفها أنها لا تخرج عن نطاق أعمال شغب، وأنها فقط ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية لا أكثر ولا أقل، ورغم كل ذلك لم يفلح، بل لم يزدها ذلك إلا شحذاً للعزائم، وإصراراً على المواصلة في طريق النصر وانتزاع الحق، حيث أن "انتفاضة الإستقلال" ذهبت أبعد من ذلك في استراتيجياتها وأبعادها وتأثيراتها الملموسة في تعميق حس العدالة التي تطبع القضية الصحراوية، كونها قضية تصفية استعمار، وتأكيدها على لحمة ووحدة الشعب وانسجام كافة شرائحه تحت لواء "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" الممثل الشرعي والطلائعي الوحيد.
- انتفاضة الإستقلال.. المكاسب والإنجازات:
حققت "انتفاضة الإستقلال" العديد من المكاسب ستظل راسخة في الأذهان، و ستبقى محل إعجاب وتقدير تتداوله الأجيال؛ ولا ضير في حصر أهم هذه الإنجازات والمكاسب على المستويين المحلي والخارجي.
- على الصعيد المحلي:
حققت الإنتفاضة منذ اندلاعها على المستوى المحلي (المناطق المحتلة ، جنوب وداخل المغرب، مخيمات اللجوء) العديد من المكاسب لا يُمكن حصرها، نوجز البعض منها في الآتي:
ـ إبطال وإفراغ محتوى الأساليب القمعية المغربية وتأكيد عدم جدوائيتها، من خلال رفض الشعب الصحراوي للخضوع أو التراجع، ومن خلال أيضاً العزم والإصرار على المواصلة بطرق سلمية حضارية.
ـ جعل المحتل يلجأ إلى تغيير أساليب الإعتقال والإعتراف بالمعتقلين السياسيين، وكذا بالنشطاء الحقوقيين، وذلك بفعل مواجهة الإعتقال وخوض الإضرابات الطويلة عن الطعام من خلف القضبان.
ـ مواجهة المُحاكمات وجعلها سياسية، واتخاذها منابر إعلامية للتعريف بالقضية والمرافعة عنها.
ـ إجبار المحتل على هدر أموال طائلة لتقوية أجهزته القمعية وتتكثيفها داخل المنطقة.
ـ تأكيد الحق وإبطال الباطل، من خلال حرق الأعلام المغربية ورفع الأعلام الوطنية الصحراوية، وبالتالي إفشال ما يُريد الإحتلال فرضه كواقع يُعاش في الإقليم.
ـ فرض الإعتراف بالنشطاء الحقوقيين الصحراويين وتجوالهم في الخارج للتعريف بالقضية والمرافعة عنها.
ـ بروز أحزاب سياسية ومنظمات مغربية متضامنة مع القضية (النهج الديمقراطي، الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، منتدى الحقيقة والإنصاف... وغيرها).
ـ بروز الإنتفاضة كمادة وأسلوب قوي للتحريض الجماهيري.
ـ شموليتها لكل أطياف المجتمع.
ـ مساهمتها في التربية والتنشئة السياسية للأجيال الصاعدة على ثقافة المقاومة السلمية.
ـ تسمية الشوارع والأحياء داخل الوطن المحتل بأسماء شهداء القضية، والنشطاء الحقوقيين.
ـ تقوية الإيمان بالقضية والإستماتة في الدفاع عنها.
ـ ظهور العديد من المواقع الإلكترونية تواكب تطورات الإنتفاضة وكل ما يتعلق بالقضية الوطنية عموماً، سواء من داخل الوطن المحتل أو من داخل المغرب نفسه، وكذا من مخيمات اللجوء.
ـ إلتحام الشعب وتآزره من خلال التضامن مع رواد الإنتفاضة من مخيمات اللجوء (قوافل دعم الإنتفاضة، المنابر التضامنية بمختلف الولايات والمؤسسات الوطنية).
ـ تخصيص حيز كبير من الإعلام الصحراوي بالمخيمات للإنتفاضة وبروز مُراسلين لها من الداخل سواء بالصوت أو الصورة أو الكتابة.
ـ الحضور الدائم لمعارض ضحايا الإنتفاضة في كل الذكريات والمناسبات الوطنية، سواء بالمخيمات أو المناطق المحررة.
- على الصعيد الخارجي:
أما على الصعيد الخارجي، فإن دور الإنتفاضة يتجلى في كونها أعطت أبطالاً نذرُوا أرواحهم في سبيل القضية (الشهيدين "حمدي لمباركي" و"لخليفي أبّا الشيخ") ومناضلين نذروا أجسادهم شموعاً تحرق، وأعينهم مناراً يُنيروا به الدرب للعالم لكي يطلع على حجم المُعانات ويعرف الإحتلال المغربي على حقيقته.
وعن ما حققته "الإنتفاضة" على المستوى الخارجي نوجز البعض منه فيما يلي:
ـ استقطاب العديد من المنظمات الحقوقية والبرلمانات الدولية إلى المنطقة.
ـ حضور القضية الوطنية بقوة في العديد من المنابر والملتقيات الدولية.
ـ استقطاب عدد كبير من القنوات الفضائية والصحافة العالمية لتغطية الأحداث بالمنطقة.
ـ زيارة بعثة المفوضية السامية التابعة للأمم المتحدة والمكلفة بجمع معلومات حول انتهاكات حقوق الإنسان بالصحراء الغربية.
ـ نشر عدة مقابلات مع نشطاء حقوقيين صحراويين ومقالات عن الإنتفاضة في العديد من الصحف الدولية.
ـ صدور كم هائل من تقارير المنظمات الدولية التي أدانت القمع المغربي وانتهاكات حقوق الإنسان على مدى أكثر من ثلاثين سنة من معانات الشعب الصحراوي (منظمة العفو الدولية، هيومان رايتس ووتش، المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب، المنظمة المسيحية للقضاء على التعذيب، منظمة مراسلون بلا حدود، منظمة الخط الأمامي، وغيرها).
ـ استحواذ الإنتفاضة لأول مرة على أكبر فقرة في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة.
ـ إعلان سنة 2007 للتضامن الدولي مع القضية والشعب الصحراويّيْن.
- ميلاد لجان دولية للتضامن مع القضية (اللجنة الجزائرية للتضامن مع الشعب الصحراوي التي تلاها تأسيس المنتدى الشباني الطلابي لدعم انتفاضة الإستقلال، وكذا الرابطة الموريتانية لأصدقاء الصحراء الغربية التي تلاها تأسيس منظمة الشباب من أجل غد أفضل، وأيضاً اللجنة العربية للتضامن مع الشعب الصحراوي وحقه في تقرير المصير، فضلاً عن الدعم الذي عبر عنه اتحاد الشباب التقدمي العربي في هذا الإطار على مستوى العالم العربي).
- الآفاق المستقبلية للإنتفاضة:
لقد نجحت الإنتفاضة إلى حد الآن في بسط نفوذها، وفرض أدبياتها بما حققته في عمرها القصير مقارنة بمثيلاتها في العالم، وذلك بفضل قضائها على الجمود الذي كان يسود القضية الصحراوية منذ وقف إطلاق النار 1991، حيث أصبحت منذ اندلاعها تتحكم في زمام الأمور بإرباكها لكل مخططات المحتل وحلفائه، ومن خلال التمعن في إنجازاتها يتضح بأنها بداية نهاية الإحتلال.
وأن المغرب لن يصمد طويلاً أمام زحفها المتواصل نحو الهدف المنشود الذي من أجله سميت (الإستقلال)، ومن خلال استقراء الواقع والمعطيات وما ستتمخض عنه المفاوضات بين المغرب والجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب في "منهاست"، فإنه وإن فشلت هذه المفاوضات - كما هو منتظر - بسبب سابق التجربة (مفاوضات هيوستن، مفاوضات العيون، مفاوضات لشبونة، وغيرها)، إلا أن الجماهير الصحراوية التي لا تعول إلا على ما انتزعته، تحت لواء الجبهة الشعبية (البوليساريو) سواء أيام الكفاح المسلح، أو بعد ذلك أثناء المقاومة السلمية، وصولا إلى "انتفاضة الإستقلال"، هذه الأخيرة التي هي السبيل نحو الإستقلال.. لكونها ستعطي دفعة قوية في المستقبل القريب للتحرك دولياً عن طريق فرض واحترام المواثيق الدولية، ومحليّاً عن طريق فرض خيار الشعب الصحراوي بأي طريقة، بما فيها الطريق نحو الكفاح المسلح في حال إصرار المحتل المغربي على التعنت وعدم الإكتراث.
- خاتمة:
إن إرادة الشعوب من إرادة الله.. وإرادة الشعوب لا تقهر .. وتتحرر الشعوب وتنموا وتزدهر بفضل نضالات نسائها ورجالها التواقين للحرية أو الشهادة في سبيلها أكثر من الحياة، والمستعدين دوما للتضحية في سبيل تمكين الذات، وحفظ الكرامة، وصون العزة، وتحقيق الحريات؛ وللوصول إلى تلك الغاية وضرورة الحاجة إليها، فإنه لابد من الوصول إليها مهما كلف ذلك من ثمن.
فهاهي ذي الجماهير الصحراوية ترنوا في زحف مستمر منتطم نحو الحرية والإنعتاق بأساليبها السلمية الحضارية التي تجسدها "انتفاضة الإستقلال"، متخذة في ذلك العبرة من التاريخ الحافل بالأمثلة، كثورة "غاندي" التي عبدت طريق الحرية للهند، وكفاح المؤتمر الوطني الإفريقي الذي مزج بين الكفاح المسلح والعصيان المدني كأسلوب أثبت نجاعته في القضاء على نظام "الأبارتايد" في جنوب أفريقيا، وعلى نفس النهج تحصلت الجزائر على استقلالها بعد تقديم مليون ونصف المليون من الشهداء على مذبح الحرية والإنعتاق ضد المستعمر الفرنسي، كما تحصلت تيمور الشرقية في أسلوب مماثل على استقلالها.
وكما أعطينا هذه الأمثلة واستدلينا بها، فإنه أكيد سيكون نضال الشعب الصحراوي أفضل مثال يقتدى به في المستقبل القريب، وتتداوله الأجيال عبر الزمن.
كتب في: أغسطس 2007
بقلم: محمد هلاب
قبل الخوض في "انتفاضة الإستقلال"، لابد أولا من إعطاء تعريف ولو موجز للإنتفاضة بشكل عام؛ فـ "الإنتفاضة"لغة هي: التحرك، فقد جاء في معجم لسان العرب لـ "ابن منظور": نفضت الثوب والشجر إذا حركته لينتفض؛ وكذلك، جاء في المعجم الوسيط: انتفض الشيء بمعنى: تحرك واضطرب، وفلان ينتفض من الرعدة؛ وهذا يعني أن الانتفاضة، هي حركة واضطراب.
أما في الإصطلاح الحديث، فهي ذلك التحرك الشّعبي الجماهيري الهائل من أجل قضايا التحرر والإنعتاق، ورفض واقع الإحتلال والإستعمار.
وقد شهد العالم عدة أمثلة عاشتها شعوبه عبر هذا المعنى أو المثال (أي الإنتفاضة)، وليس ببعيد عن ذلك ما يعيشه أبناء وبنات الشعب الصحراوي من انتفاضات متتالية من أجل رفع الظلم والهيمنة والإحتلال المغربي؛ وتأتي "انتفاضة الإستقلال" دليلاً قاطعاً وتتويجاً لبداية نهاية عمر الإحتلال.
لقد أتى تحرك الجماهير الصحراوية بالمناطق المحتلة وجنوب المغرب والجامعات المغربية وبكل مواقع الفعل والنضال، تحركاً وزخماً نضاليّاً سلميّاً حضارياً اندلع منذ 21 مايو 2005، وامتد عبر كل أرجاء الوطن الصحراوي المحتل انطلاقا من العاصمة العيون، حيث كانت بداية الشرارة من أمام "السجن لكحل" الرهيب أين تجمع العديد من أبناء وبنات الشعب الصحراوي احتجاجاً على ترحيل المعتقل السياسي الصحراوي "سيد أحمد هدي الكينان"، لتعم باقي مدن ومداشر الوطن، وكذا مختلف المواقع الجامعية داخل المغرب نفسه، الشيء الذي أماط أقنعة الديمقراطية والحُريات التي طالما تشدق بها النظام الملكي الجديد القديم في السنوات الأخيرة، خاصة منذ اعتلاء الملك "محمد السادس" عرش الدولة المغربية 1999، إلا أن قوات هذا الأخير سرعان ما أظهرت خفاياه ودسائسه، وسرعان ما أكدت أن لسان الحال أصدق من لسان المقال.
ولعل المحطات الأخيرة بتدخل قوات القصر لردع "انتفاضة الإستقلال" بكل أساليب العنف والوسائل القمعية الخطيرة لخير دليل على ذلك؛ إلا أن أبطال وبطلات "الإنتفاضة" يومها كان لهم رأي جديد هذه المرة، تحول من رأي كامن بفعل التضييق والخناق والإرهاب المُمنهج، إلى رأي صريح معبر عنه بصوت عال واضح وضوح الشمس في كبد السماء بفعل الإستجابة لنداء الإنتفاضة الذي دوى عاليّاً ليصل إلى كل بقاع العالم، كاشفاً سيّاسات ومغالطات الدولة المغربية وخروقاتها السافرة لحقوق الإنسان الصحراوي فوق أرضه المغتصبة ومبينا أيضاً أنه قد حان الوقت لتعود المياه إلى مجاريها، قد حان الوقت للفصل بين الحق والباطل، قد حان الوقت لإنهاء مُعانات الأرض والشعب الصحراوييْن، قد حان الوقت للعودة إلى الوطن ولمّ الشمل بين أحضانه، قد حان الإستقلال؛ ولم تأتي تسميتها "انتفاضة الإستقلال" عبثا هكذا، بل جاء الإسم لأنه حقاً حان موعد الإستقلال؛ ولم يعد هناك من إسم بعد الإستقلال، مما يبرهن أنها بحول الله وقوته آخر انتفاضة يخوضها الشعب الصحراوي قبيل الإستقلال.
- انتفاضة الإستقلال سليلٌ وامتدادٌ للعديد من الإنتفاضات:
لم تكن "انتفاضة الإستقلال" أول انتفاضة يخوضها الشعب الصحراوي، بل جاءت امتداداً وسليلاً للعديد من الإنتفاضات التي سبقتها على مرّ تاريخ مقاومة هذا الشعب، هذه الإنتفاضات التي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "انتفاضة الزملة التاريخية 17 يونيو 1970"، تلك الإنتفاضة التي اندلعت تتويجاً لمرحلة طويلة من نضال الحركة الوطنية الصحراوية التي تمخضت عن ميلاد وإنشاء "المنظمة الطليعية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" أو "منظمة تحرير الصحراء" على يد مجموعة من المواطنين الصحراويين الأشاوس بقيادة الفقيد "محمد سيد ابراهيم بصيري"، هذه الإنتفاضة التي واجه فيها المستعمر الإسباني آنذاك جموع المنتفضين الصحراويين بشتى أنواع التنكيل والتعذيب والإختطافات، حيث راح ضحية ذلك التدخل الهمجي "محمد سيدابراهيم بصيري" مجهول المصير لم تقدم عنه الحكومة الإسبانية المسؤولة أي شيء حتى الآن رغم مطالبة إلحاح المنظمات الحقوقية العالمية وجمعية أولياء المعتقلين والمفقودين الصحراويين بالكشف عن مصيره.
واستمراراً لملحمة الزملة التاريخية وعلى نهج رفض الشعب الصحراوي العيش تحت سيطرة أي قوة استعمارية مهما كان نوعها، تلت ذلك انتفاضة "طان طان" 1972، هي الأخرى وجدت قمعا عنيفاً من المستعمر، حيث اعتقل العشرات من المواطنين الصحراويين من مختلف الأعمار والأجناس، كما عذب وشرد الكثير، ورغم آلة القمع المدمرة التي قوبلت بها، إلا أن ذلك لم يثني هذا الشعب عن نضاله وكفاحه المرير من أجل حقه، بل إن ذلك لم يزده إلا عزماً وإصراراً على التمكين والتمكن، وبالتالي تنظيمه وتأطيره تحت ممثل شرعي وحيد أسس في الـ 10 مايو 1973 "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب".
وبعد تأسيس "البوليساريو" بعشرة أيام فقط كانت بداية شرارة الكفاح المسلح ضد جحافل الإستعمار الإسباني في 20 مايو 1973 عندما خرج المناضلون الصحراويون في عملية مسلحة قوامها وعتادها مقارنة بما يملكه العدو آنذاك هو فقط معنويات الشعب المرتفعة والإيمان بعدالة القضية وضرورة رفع الحيف والظلم الذي يجسده المستعمر.
وبعد اقتناع "إسبانيا" أنها لن تستطيع مقاومة وإرادة الشعب الصحراوي، خرجت بعد عملية خبيثة جسدتها "اتفاقية مدريد المشؤومة" لتدخل في عملية تسليم واستلام مع النظام الملكي المغربي والنظام الموريتاني آنذاك (نظام ولد دادّاه)؛ ليدخل الشعب الصحراوي مأساة جديدة ومعاناة كابدها منذ الوهلة الأولى من قدوم المحتل المغربي بتاريخ 31 أكتوبر 1975، حيث جلب هذا الأخير كل أنواع البغض والحقد، ومارس كل أنواع الإنتهاكات والخروقات السافرة لحقوق الإنسان الصحراوي، المتمثلة أساساً في التقتيل الفردي والجماعي، الرمي من الطائرات، قنبلة المدنيين بالأسلحة المحرمة دولياً، حرق الخيام وإتلاف الممتلكات العامة، الإغتصاب، التشريد، الحرمان، إجهاض الحوامل وإثكال المرضعات، إلى غير ذلك من الجرائم والإنتهاكات.
ورغم كل ذلك فلم يستطع إرهاب الدولة المغربية ثني الشعب الصحراوي عن المطالبة بحقه المشروع في الحرية والإستقلال، بل ظل هذا الشعب رغم قلة عدده وضعف إمكانياته صامداً واقفاً حجرة عثرة في وجه المحتلين التوسعيّين.
ثم توالت الإنتفاضات تلو الإنتفاضات، والبُطولات تلو البُطولات، إلى أن جاءت "انتفاضة 1987" التي شهدت اختطافات بالجملة وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان الصحراوي الأعزل فوق أرضه المسلوبة، ذنبه الوحيد في ذلك أنه خرج في مظاهرات سلمية لاستقبال "البعثة الأممية لتقصي الحقائق في الصحراء الغربية" أثناء زيارتها للإقليم، حيث استقبلها الشعب الصحراوي بالعاصمة المحتلة "العيون" بالأعلام الصحراوية والزغاريد والشعارات الرافضة للإحتلال والمنادية بالإستقلال، الشيء الذي لم يرق لسلطات المحتل التي تدخلت كالمعتاد بالوسائل القمعية المعتادة.
وفي طريق التحرر والكفاح النزيه الحضاري كانت للشعب الصحراوي وقفة مع انتفاضة أخرى هي "انتفاضة 1992" التي انطلقت شرارتها في 24 سبتمبر 1992 من "آسا"، هذه الإنتفاضة التي كانت دليلاً قاطعاً على وحدة وصلابة الشعب الصحراوي في مواجهة الإحتلال، وعلى إثرها قامت سلطات الإحتلال بتعزيز المنطقة بأجهزة أمنية تفوق ساكنة المدينة بالأضعاف المضاعفة، حيث قامت هذه الأجهزة اللعينة بمواجهة المنتفضين المتظاهرين، واعتقال العديد من روّاد هذه الملحمة البطولية ممن عانوا السجون والمعتقلات السرية بـ "إنزكان" المغربية وغيرها من المعتقلات والمخابئ السرية الرهيبة.
لتعقبها مباشرة "انتفاضة 1993" التي شهدت نوعاً جديدا من الغطرسة المخزنية المغربية، حيث تمت محاكمة مجموعة من الشباب الصحراوي بينهم قاصرين، حُوكموا محاكمة عسكرية، رغم أنهم مدنيين طلاب في الإعداديات والثانويات ولاعلاقة لهم بالعسكر لا من قريب أو بعيد؛ وهذه المجموعة هي المعروفة لدى الرأي العام بـ "مجموعة الستة" التي كان من ضمنها الشابة الصحراوية المرحومة "كلثوم أحمد لعبيد الونات" التي راحت فيما بعد ضحية حادث سير مفبرك في الطريق الرابطة بين مدينتي طانطان/ جنوب المغرب والسمارة المحتلة.
وأمام إصرار الدولة المغربية على تعنتها ومُماطلاتها لم يجد الشعب الصحراوي الأعزل من حل أمام صمت العالم إلا أن يُواصل نضاله السلمي الحضاري وخوض الإنتفاضات المتتالية مواصلة للدرب، حيث اعتصم مرة أخرى السكان الصحراويين بمنطقة "لمسيد" ضواحي "طانطان" في انتفاضة 1997 عندما اعتصموا اعتصاماً دام أربعة أشهر تدخلت خلاله قوات القمع المغربية بمختلف فصائلها بعنف شديد ضد المعتصمين يومي 25 و 26 من فبراير 1998 لفض وقمع الإعتصام، إلا أن الأبطال الصحراويين أصرّوا على الحيلولة دون ذلك، مما نتج عنه صدامات قوية بينهم وبين أجهزة القمع المغربية، سقط جراءها العديد ما بين مصاب ومعتقل في صفوف الصحراويين ممن بصمُوا في السجل الذهبي لتاريخ نضال الشعب الصحراوي المكافح.
ولم يمض الكثير من الوقت حتى ضربت الجماهير الصحراوية موعداً جديدا مع "انتفاضة 1999 المجيدة"، هذه الإنتفاضة التي خرجتْ فيها كل شرائح المجتمع الصحراوي لتظهر لملك المغرب حديث النشأة "محمد السادس" أنها موجودة ودائماً في مُواكبة مستمرة للأحداث ورفض تام لكل أنواع الظلم والطغيان، حيث تميزت الإنتفاضة هذه المرة في سابقة من نوعها بتجنيد السلطات المغربية لمليشيات من المستوطنين المغاربة إلى جانبها لقمع المتظاهرين الصحراويين وترهيبهم والتنكيل بهم؛ وقد نتج عن ذلك اعتقال واختطاف وتعذيب العشرات من الصحراويين وتقديمهم للمحاكمات الصورية بملفات مطبوخة بإحكام وعقوبات سجنية تراوحت بين الشهر والخمسة عشر سنة سجناً نافذاً.
وهكذا بقيت أشكال المقاومة الحضارية السلمية العنوان الأبرز لنضالات الشعب الصحراوي الأعزل المؤمن بنبل و عدالة قضيته، وأنه لن يضيع حق وراءه مطالب.
- انتفاضة الإستقلال.. السبيل نحو الإستقلال:
لقد اندلعت كما هو معلوم "انتفاضة الإستقلال"واشتعل فتيلها في الـ 21 من مايو 2005، نتيجة لتراكمات الأساليب القمعية والترهيبية المُمنهجة من طرف الدولة المغربية؛ ولقد كان ترحيل المعتقل السياسي الصحراوي "سيدأحمد هدي الكينان" من السجن لكحل بالعيون المحتلة بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، حيث أن الرّد الهمجي لسلطات الإحتلال على المظاهرة السلمية التي نظمتها عائلته والنشطاء الحقوقيين الصحراويين، إضافة إلى الجماهير الصحراوية أمام السجن المذكور، هذا الرد الهمجي الذي كان السبب في جعل الرأي العام الصحراوي بالمناطق المحتلة وجنوب المغرب يتحول من الكامن إلى الصريح المعبر عنه، ليتجاوب الصحراويون مع نداء الإنتفاضة الذي دوى صوته عاليّاً في آذان كل أرجاء المعمورة، هذه الإنتفاضة المُباركة التي نسبت في تسميتها إلى "الإستقلال"، ولم يكن الإسم هكذا بمحض الصدفة ، بل لأنها جاءت لتكون خاتمة لجملة من الإنتفاضات والمُقاومات والنضالات التي قام بها الشعب الصحراوي على طول مراحل كفاحه ضد الغزاة الدخلاء؛ هذا الشعب الذي انتفض بمختلف شرائحه (من طلبة، معطلين، حقوقيين، عُمّال، شيوخ، نساء، رجال، وأطفال) الكل أراد أن يجعل من "انتفاضة الإستقلال" الحد الفاصل بين الدولة المغربية والدولة الصحراوية، من خلال الرفض القاطع للإحتلال والمماطلات والإنتظار المُمل الذي انتظر من خلاله الشعب الصحراوي أكثر من ثلاثة عقود من الزمن في ظل الممارسات القمعية والإنتهاكات الجسيمة المرتكبة في حقه.
- الإنتفاضة برهان الشعب على تحقيق الذات ورفع التحديات:
يتجلى لبّ وجوهرُ "انتفاضة الإستقلال" في مغزاها السيّاسي، بل تبقى أحسن وسيلة لتمرير خطاب سياسي متحرر، خاصة في ظل الواقع المعاش حاليّاً، والمتمثل في:
ـ جمود مخطط التسوية الأممي.
ـ الموقف المغربي المتعنت الرافض لأي حل يتضمن تقرير المصير.
ـ عجز المنتظم الدولي عن فرض احترام قراراته.
ـ تفشي انتهاكات حقوق الإنسان الصحراوي في الأراضي المحتلة من الصحراء الغربية وكل المواقع التابعة للإدارة المغربية.
ـ الحصار الإعلامي والطوق العسكري المضروب على المنطقة.
ورغم كل ذلك، فلقد حققت "انتفاضة الإستقلال" في مشوارها القصير منذ اندلاعها العديد من المكاسب، سواءٌ على المستوى المحلي أو الخارجي، وأثبتتْ بالفعل وبجدارة قدرة الشعب على الفعل النضالي الحضاري السلمي، حيث برهنتْ وبفاعلية مطلقة نوايا الشعب الصحراوي الحسنة في مدّ يده نحو السلم والتمسك به رغم ما يُلاقيه من قمع وتنكيل، وأثبتت للعالم أجمع رغم التعتيم الإعلامي والتضييق المفروض من طرف المحتل أن الشعب الصحراوي شعبٌ مسالمٌ يُحبّ السلم ويسعى وراءه، وهذا لا يعني بتاتاً تخليه عن الدفاع عن النفس الذي تشرعه المواثيق والأعراف الدولية، بما في ذلك العودة في أية لحظة إلى الكفاح المسلح إذا دعت الحاجة إليه، كما سبق أن خاضه جيش التحرير الشعبي الصحراوي (1975 ـ 1991) وسجل من خلاله صفحات مجد وخلود بصمتها الذاكرة الجماعية الصحراوية.
ورغم محاولات المحتل المغربي لإقبار "الإنتفاضة" بوصفها أنها لا تخرج عن نطاق أعمال شغب، وأنها فقط ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية لا أكثر ولا أقل، ورغم كل ذلك لم يفلح، بل لم يزدها ذلك إلا شحذاً للعزائم، وإصراراً على المواصلة في طريق النصر وانتزاع الحق، حيث أن "انتفاضة الإستقلال" ذهبت أبعد من ذلك في استراتيجياتها وأبعادها وتأثيراتها الملموسة في تعميق حس العدالة التي تطبع القضية الصحراوية، كونها قضية تصفية استعمار، وتأكيدها على لحمة ووحدة الشعب وانسجام كافة شرائحه تحت لواء "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" الممثل الشرعي والطلائعي الوحيد.
- انتفاضة الإستقلال.. المكاسب والإنجازات:
حققت "انتفاضة الإستقلال" العديد من المكاسب ستظل راسخة في الأذهان، و ستبقى محل إعجاب وتقدير تتداوله الأجيال؛ ولا ضير في حصر أهم هذه الإنجازات والمكاسب على المستويين المحلي والخارجي.
- على الصعيد المحلي:
حققت الإنتفاضة منذ اندلاعها على المستوى المحلي (المناطق المحتلة ، جنوب وداخل المغرب، مخيمات اللجوء) العديد من المكاسب لا يُمكن حصرها، نوجز البعض منها في الآتي:
ـ إبطال وإفراغ محتوى الأساليب القمعية المغربية وتأكيد عدم جدوائيتها، من خلال رفض الشعب الصحراوي للخضوع أو التراجع، ومن خلال أيضاً العزم والإصرار على المواصلة بطرق سلمية حضارية.
ـ جعل المحتل يلجأ إلى تغيير أساليب الإعتقال والإعتراف بالمعتقلين السياسيين، وكذا بالنشطاء الحقوقيين، وذلك بفعل مواجهة الإعتقال وخوض الإضرابات الطويلة عن الطعام من خلف القضبان.
ـ مواجهة المُحاكمات وجعلها سياسية، واتخاذها منابر إعلامية للتعريف بالقضية والمرافعة عنها.
ـ إجبار المحتل على هدر أموال طائلة لتقوية أجهزته القمعية وتتكثيفها داخل المنطقة.
ـ تأكيد الحق وإبطال الباطل، من خلال حرق الأعلام المغربية ورفع الأعلام الوطنية الصحراوية، وبالتالي إفشال ما يُريد الإحتلال فرضه كواقع يُعاش في الإقليم.
ـ فرض الإعتراف بالنشطاء الحقوقيين الصحراويين وتجوالهم في الخارج للتعريف بالقضية والمرافعة عنها.
ـ بروز أحزاب سياسية ومنظمات مغربية متضامنة مع القضية (النهج الديمقراطي، الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، منتدى الحقيقة والإنصاف... وغيرها).
ـ بروز الإنتفاضة كمادة وأسلوب قوي للتحريض الجماهيري.
ـ شموليتها لكل أطياف المجتمع.
ـ مساهمتها في التربية والتنشئة السياسية للأجيال الصاعدة على ثقافة المقاومة السلمية.
ـ تسمية الشوارع والأحياء داخل الوطن المحتل بأسماء شهداء القضية، والنشطاء الحقوقيين.
ـ تقوية الإيمان بالقضية والإستماتة في الدفاع عنها.
ـ ظهور العديد من المواقع الإلكترونية تواكب تطورات الإنتفاضة وكل ما يتعلق بالقضية الوطنية عموماً، سواء من داخل الوطن المحتل أو من داخل المغرب نفسه، وكذا من مخيمات اللجوء.
ـ إلتحام الشعب وتآزره من خلال التضامن مع رواد الإنتفاضة من مخيمات اللجوء (قوافل دعم الإنتفاضة، المنابر التضامنية بمختلف الولايات والمؤسسات الوطنية).
ـ تخصيص حيز كبير من الإعلام الصحراوي بالمخيمات للإنتفاضة وبروز مُراسلين لها من الداخل سواء بالصوت أو الصورة أو الكتابة.
ـ الحضور الدائم لمعارض ضحايا الإنتفاضة في كل الذكريات والمناسبات الوطنية، سواء بالمخيمات أو المناطق المحررة.
- على الصعيد الخارجي:
أما على الصعيد الخارجي، فإن دور الإنتفاضة يتجلى في كونها أعطت أبطالاً نذرُوا أرواحهم في سبيل القضية (الشهيدين "حمدي لمباركي" و"لخليفي أبّا الشيخ") ومناضلين نذروا أجسادهم شموعاً تحرق، وأعينهم مناراً يُنيروا به الدرب للعالم لكي يطلع على حجم المُعانات ويعرف الإحتلال المغربي على حقيقته.
وعن ما حققته "الإنتفاضة" على المستوى الخارجي نوجز البعض منه فيما يلي:
ـ استقطاب العديد من المنظمات الحقوقية والبرلمانات الدولية إلى المنطقة.
ـ حضور القضية الوطنية بقوة في العديد من المنابر والملتقيات الدولية.
ـ استقطاب عدد كبير من القنوات الفضائية والصحافة العالمية لتغطية الأحداث بالمنطقة.
ـ زيارة بعثة المفوضية السامية التابعة للأمم المتحدة والمكلفة بجمع معلومات حول انتهاكات حقوق الإنسان بالصحراء الغربية.
ـ نشر عدة مقابلات مع نشطاء حقوقيين صحراويين ومقالات عن الإنتفاضة في العديد من الصحف الدولية.
ـ صدور كم هائل من تقارير المنظمات الدولية التي أدانت القمع المغربي وانتهاكات حقوق الإنسان على مدى أكثر من ثلاثين سنة من معانات الشعب الصحراوي (منظمة العفو الدولية، هيومان رايتس ووتش، المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب، المنظمة المسيحية للقضاء على التعذيب، منظمة مراسلون بلا حدود، منظمة الخط الأمامي، وغيرها).
ـ استحواذ الإنتفاضة لأول مرة على أكبر فقرة في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة.
ـ إعلان سنة 2007 للتضامن الدولي مع القضية والشعب الصحراويّيْن.
- ميلاد لجان دولية للتضامن مع القضية (اللجنة الجزائرية للتضامن مع الشعب الصحراوي التي تلاها تأسيس المنتدى الشباني الطلابي لدعم انتفاضة الإستقلال، وكذا الرابطة الموريتانية لأصدقاء الصحراء الغربية التي تلاها تأسيس منظمة الشباب من أجل غد أفضل، وأيضاً اللجنة العربية للتضامن مع الشعب الصحراوي وحقه في تقرير المصير، فضلاً عن الدعم الذي عبر عنه اتحاد الشباب التقدمي العربي في هذا الإطار على مستوى العالم العربي).
- الآفاق المستقبلية للإنتفاضة:
لقد نجحت الإنتفاضة إلى حد الآن في بسط نفوذها، وفرض أدبياتها بما حققته في عمرها القصير مقارنة بمثيلاتها في العالم، وذلك بفضل قضائها على الجمود الذي كان يسود القضية الصحراوية منذ وقف إطلاق النار 1991، حيث أصبحت منذ اندلاعها تتحكم في زمام الأمور بإرباكها لكل مخططات المحتل وحلفائه، ومن خلال التمعن في إنجازاتها يتضح بأنها بداية نهاية الإحتلال.
وأن المغرب لن يصمد طويلاً أمام زحفها المتواصل نحو الهدف المنشود الذي من أجله سميت (الإستقلال)، ومن خلال استقراء الواقع والمعطيات وما ستتمخض عنه المفاوضات بين المغرب والجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب في "منهاست"، فإنه وإن فشلت هذه المفاوضات - كما هو منتظر - بسبب سابق التجربة (مفاوضات هيوستن، مفاوضات العيون، مفاوضات لشبونة، وغيرها)، إلا أن الجماهير الصحراوية التي لا تعول إلا على ما انتزعته، تحت لواء الجبهة الشعبية (البوليساريو) سواء أيام الكفاح المسلح، أو بعد ذلك أثناء المقاومة السلمية، وصولا إلى "انتفاضة الإستقلال"، هذه الأخيرة التي هي السبيل نحو الإستقلال.. لكونها ستعطي دفعة قوية في المستقبل القريب للتحرك دولياً عن طريق فرض واحترام المواثيق الدولية، ومحليّاً عن طريق فرض خيار الشعب الصحراوي بأي طريقة، بما فيها الطريق نحو الكفاح المسلح في حال إصرار المحتل المغربي على التعنت وعدم الإكتراث.
- خاتمة:
إن إرادة الشعوب من إرادة الله.. وإرادة الشعوب لا تقهر .. وتتحرر الشعوب وتنموا وتزدهر بفضل نضالات نسائها ورجالها التواقين للحرية أو الشهادة في سبيلها أكثر من الحياة، والمستعدين دوما للتضحية في سبيل تمكين الذات، وحفظ الكرامة، وصون العزة، وتحقيق الحريات؛ وللوصول إلى تلك الغاية وضرورة الحاجة إليها، فإنه لابد من الوصول إليها مهما كلف ذلك من ثمن.
فهاهي ذي الجماهير الصحراوية ترنوا في زحف مستمر منتطم نحو الحرية والإنعتاق بأساليبها السلمية الحضارية التي تجسدها "انتفاضة الإستقلال"، متخذة في ذلك العبرة من التاريخ الحافل بالأمثلة، كثورة "غاندي" التي عبدت طريق الحرية للهند، وكفاح المؤتمر الوطني الإفريقي الذي مزج بين الكفاح المسلح والعصيان المدني كأسلوب أثبت نجاعته في القضاء على نظام "الأبارتايد" في جنوب أفريقيا، وعلى نفس النهج تحصلت الجزائر على استقلالها بعد تقديم مليون ونصف المليون من الشهداء على مذبح الحرية والإنعتاق ضد المستعمر الفرنسي، كما تحصلت تيمور الشرقية في أسلوب مماثل على استقلالها.
وكما أعطينا هذه الأمثلة واستدلينا بها، فإنه أكيد سيكون نضال الشعب الصحراوي أفضل مثال يقتدى به في المستقبل القريب، وتتداوله الأجيال عبر الزمن.
كتب في: أغسطس 2007
بقلم: محمد هلاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق