بقلم: محمد سالم مروان |
تعيش مداشر
الصحراء على أمل أن يتغير الواقع وأن تعرف تنمية هويّاتيّة حقيقية يتم فيها القطع
مع دابر الفساد الأخلاقي والاجتماعي الذي نخر البلاد والعباد، ويتفق الكثير من
الصحراويين الغيورين على تعرض المُجتمع الصحراوي في العقدين الماضيين إلى تحولات
اجتماعية أحدثت انقلاباً في القيم التي صاغتْ سلوك هذا الإنسان، وقد يعود السبب
إلى الانفتاح العَوْلَمي الأعمى الذي أفسح الطريق لكثير من العادات السلبية،
وسلوكاً غير قيّم ليصيغ لنا توجهات جديدة تشوه السلوك العام، خلافاً لما هو معهود
في السابق.
إن هاته
المداشر التي ألبست لبوس الحواضر في شكل بناياتها الإدارية المخزنية الضخمة والإنزالات
البشرية الكثيفة للوافدين الجدد، قصد امتصاص الاحتقان الداخلي الذي عرفه المغرب
منذ ما اصطلح عليه بـ"ثورة الكوميرة" إلى يومنا هذا كان من الممكن أن
تكون أحسن حالاً مما هي عليه اليوم لو أننا تعاملنا بمنطق اليقظة والحذر مع هاته
الثقافات الوافدة علينا؛ فالكل يدعي محبته لهاته الأرض الطيبة التي أنجبت رجالاً
ونساءً وشباباً، وبطريقته الخاصة، هنالك من يختصر حبه لمداشرها على هيئة كعكة
كبيرة يلتهمها متى شاء وكلما داهمه الجشع بتفويض رسمي مُزور في غالب الأحيان؛ وهنالك
من يموت لأجلها في كل يوم ألف مرة في مخيمات اللجوء من أجل فكرة الاستقلال؛ هنالك
من يخونها وهنالك من يتجسس عليها وهنالك من يضعها في جيبه وهنالك من يضعها في
البنك وهنالك من يغار عليها وهنالك من يحميها بصدره العاري، وهنالك من لا حظ له
فيها سوى جمع الروث والأزبال، وأخيراً هناك من ينتظر "حلم ولد أهْمَيْشْ"
ويعيش في أمل وهم الانتظار ما ستجود به سماء رب عمر؛ إنها هويتنا الجديدة اليوم!!؟
الهوية
التي تعنينا ونعنيها هنا، ليست الشكل الخارجي المتمثل في الملبس والطراز المعماري
وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي وما يُحيط به من بريستيج.. وهي ليست الرقصات
المستمدة من الفلكلور الشعبي، التي نشاهدها في الأعراس ونشارك بها في المهرجانات
الثقافية التي نقيمها بتراثنا، إنه نمط التفكير الذي أصبح يشكل خطورة أكبر في
مسألة ضياع الرجولة الصحراوية التي لا تـُباع ولا تـُشترى؛ هذا ما نعنيه بالعمق،
الذي ربما كان غائباً عن المهتمين بالمحافظة على الهوية الصحراوية بجميع تجلياتها إن
هم وجدوا طبعاً؛ وعندها تشعر أن الخطر المحدق بهويتنا الوطنية، أكبر بكثير مما
نتصور أو نتوقع، لأنه خطر يستهدف ما هو أهم من المظهر الخارجي؛ منطقته عقول
أبنائنا التي بدأت تتسلل إليها أفكار غريبة تكرس الإتكاليّة وحب الذات والسفسطائية
والاعتماد الكلي على التسول للظفر ببطاقة إنعاش، ويترك الساحة الاقتصادية للوافدين
لتتحكم فينا، خطر ينطلق من الحاضر، لا ليهدد الهوية بالشكل التقليدي المُتعارف
عليه، وإنما ليهدد المستقبل بكل عناصره ومكوناته، التي أهمها هذا الجيل الذي ينشأ
متشبعاً بهذه الفكرة وأمثالها.
أصبح اليوم
جل الصحراويين يتعلقون بأهداب حداثيّة المُوضة السنوبيزمية(*)، ضاحكين على أنفسهم
بملء أفواهم، من حيث لا يدرون؛ يؤسسون لأنفسهم أوهام الارتقاء الاجتماعي.. نحن
الذين أضعفنا روح الهوية يوم أن تخلينا عن كل مهنة شريفة قام بها الأجداد وانشغلنا
نبحث عن لقمة العيش التي تأتينا من وراء وظيف بمثابة رق مُقنع أو ريع مخزني بئيس أو
بطاقة إحسان.. الإنسان الصحراوي، صار يبحث عن الراحة وصار يُفتش عن العيش من أبسط
السبل طريقاً.. الكثير من المهن ترفع مُواطنو هذا الزمن عن القيام بها، ثم نتساءل
لماذا اهتزت ثقة الجيل بهويته وأصالته؟
أصبحنا نعيش فساداً أخلاقياً في الهوية والمفاهيم الصحراوية الأصيلة التي أسست من أجلها نمطية التعايش لكل مكونات المجتمع الصحراوي؛ ليس من حيث المظهر المتمثل في الملبس والمأكل والمشرب واللسان فقط، وإنما من حيث الجوهر، وهو الإحساس والشعور بالإنسية الصحراوية؛ أصبح اليوم واقعنا يحن إلى الماضي البعيد – القريب.. يحن إلى ماضي "أخيام أكبارات" بثقافة خدمة الجميع، الكل عندها سواسية، خيمة للجميع فقيرها كغنيها، وليس إلى "خيام أكصيْفاتْ" بثقافة الدوفيز والنيكل الأصفر.. قصورها مقفلة ولا تفتح إلا أيام معدودات من أجل جني أصوات انتخابية، ولتعاود الكرة من جديد؛ وموضوع الهوية الصحراوية تراه يذوب ويضمحل يوماً بعد يوم، بفعل عوامل كثيرة أصبحت معروفة لكثرة تكرارها.
أصبحنا نعيش فساداً أخلاقياً في الهوية والمفاهيم الصحراوية الأصيلة التي أسست من أجلها نمطية التعايش لكل مكونات المجتمع الصحراوي؛ ليس من حيث المظهر المتمثل في الملبس والمأكل والمشرب واللسان فقط، وإنما من حيث الجوهر، وهو الإحساس والشعور بالإنسية الصحراوية؛ أصبح اليوم واقعنا يحن إلى الماضي البعيد – القريب.. يحن إلى ماضي "أخيام أكبارات" بثقافة خدمة الجميع، الكل عندها سواسية، خيمة للجميع فقيرها كغنيها، وليس إلى "خيام أكصيْفاتْ" بثقافة الدوفيز والنيكل الأصفر.. قصورها مقفلة ولا تفتح إلا أيام معدودات من أجل جني أصوات انتخابية، ولتعاود الكرة من جديد؛ وموضوع الهوية الصحراوية تراه يذوب ويضمحل يوماً بعد يوم، بفعل عوامل كثيرة أصبحت معروفة لكثرة تكرارها.
لست رجعيّاً
بمفهومها التقليداني الأعمى، أو من باب قراءة ما بين السطور لهذا المقال، ولكن من
باب أن الصحراويين كانوا يحترمون ذواتهم وأنفتهم، في احترام متبادل بين الجميع، ضمن
إطار الفاعل الاجتماعي التاريخي للمجال الصحراوي "القبيلة"، فاعل لا يُمكن
القفز عليه من أجل فهم الواقع الصحراوي من أجل التهذيب وحُسن السلوك، وليس
"القبلية"، التي تـُذكيها النعرات المشينة لسمعة وأصول الثقافة
الصحراوية الأصيلة.. وهي ليست السلوكيات التي نـُحاول ترسيخها في نفوس أبنائنا
للمحافظة على نهج الآباء والأجداد، وإحياء النمط الاجتماعي الذي كان سائداً قبل
عهد الطفرة المادية الحالية، التي جعلت من الهوية الوطنية قضية مطروحة على بساط
البحث، ومشكلة يعتقد البعض أن حلها من الصعوبة بمكان يرقى بها إلى درجة الأزمة.
اختلط
علينا الحابل بالنابل؛ لساننا الحساني تغير، يلحن يمنة ويسرة، عاداتنا تغيرتْ بفعل
الهرولة نحو الموضة المقيتة والتصنع الأعمى، نمط العيش تغير بدوره من فرط
الاستهلاك غير المنتج، فأصبحنا كالغـُراب!، لانفقه شيئاً في ما نـُريد، وإلى أين نحن ذاهبون
بمستقبل أجيالنا؟ تـَمَتـْرَسْنـَا بحصون الحداثة الجاهلية التي تعظم وتقدس حب
الرياء الاجتماعي على حساب الشخصية الرجولية الصحراوية الأصيلة، ونسينا أننا مُستهدفون
في بنيتنا وهويتنا الصحراوية اجتماعياً واقتصادياً؛ جلنا انساق انجرافيّاً نحو
المجهول، وتركنا هويتنا الخصبة عرضة لعوامل التعرية المتمثلة في تفكيك الإرث
اللغوي الحساني وتفتيته وشرذمته، وتفكيك الواقع الاقتصادي لنبقى رهائن لما نسميهم
نحن في ثقافتنا الشعبوية بالحَمّالَة.. وقد يكون بوعي أم بعدمه فالنتيجة واحدة؛
لأن الخراب يأتي من طرف المعادلة القصدية أم غيره التي ستؤول علينا بتصحر هوياتي
سقيم.
سئمنا
حضارة العفن والتعفن وحضارة المدنية النجسة والبئيسة والنتنة.. فمن الواجب أن نضع
المفاهيم العلمية التي تحفظها وتصونها من العبث، وإلا لماذا نشعر بالخجل عندما
نسمع أطفالنا يتحدثون بلهجة أشبه بنقيق الضفادع ونساؤنا يتلذذون بعبارات التمييع
الأخلاقي والاجتماعي ممن يكدون ويجتهدون لإطعامنا بالأسواق، عبر امتصاص ثرواتنا
والهروب بها نحو مداشرهم؟
يُقال إنه في حال سيطرت الصين على قيادة العالم فإنها لن تتدخل بفرض هويتها عليه، لأن الصين لا يهمها تربية العالم ولا تغيير هويته، كما لا تـُريد من أي أحد أن يدخل في هويتها وخصوصيتها، هي تريد الكسب فقط بمعرفة ما يُريده العالم لإنتاجه له، والدليل على ذلك الصينيون في كل مجتمعات العالم لم يذوبوا بها بل حافظوا على هويتهم وأقاموا مدنهم وأحياءهم الصينية الصغيرة داخل المدن الكبيرة التي احتوتهم، حتى وإن حملوا جنسيتها فولاؤهم لهويتهم الصينية فقط.. ويبقى السؤال: هل نحن قادرون على أن يكون ولاؤنا لهويتنا الرجولية الصحراوي؟
يُقال إنه في حال سيطرت الصين على قيادة العالم فإنها لن تتدخل بفرض هويتها عليه، لأن الصين لا يهمها تربية العالم ولا تغيير هويته، كما لا تـُريد من أي أحد أن يدخل في هويتها وخصوصيتها، هي تريد الكسب فقط بمعرفة ما يُريده العالم لإنتاجه له، والدليل على ذلك الصينيون في كل مجتمعات العالم لم يذوبوا بها بل حافظوا على هويتهم وأقاموا مدنهم وأحياءهم الصينية الصغيرة داخل المدن الكبيرة التي احتوتهم، حتى وإن حملوا جنسيتها فولاؤهم لهويتهم الصينية فقط.. ويبقى السؤال: هل نحن قادرون على أن يكون ولاؤنا لهويتنا الرجولية الصحراوي؟
محمد سالم
مروان: med_salem_yasser@hotmail.fr
(*)
"سنوبيزم" هو مصطح غربي ويعني "الإعجاب بكل ما هو وفق المودة"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق