تتعدد صور التعذيب داخل السجون والمخابئ السرية ومخافر الشرطة المغربية (الشرطة القضائية PJ، الدرك الملكي، القوات المسلحة، الإستعلامات العامة RG ، مراقبة التراب الوطنيDST... وغيرها)، وتتعدد طرق وأساليب الجلادين، كما تتعدد الحالات من الضحايا الأبرياء من الجنسين، ومن أبناء الشعبين المغربي المغلوب على أمره، والصحراوي الخاضع لاحتلال وغطرسة النظام الملكي، وكل يحكي ما يستطيع تذكره في رحلة عذابه داخل قلاع ودهاليز الموت على أيدي الجلادين.
وهذه حكاية امرأة صحراوية مرّتْ بالعديد من محطات العذاب، الناشطة الحقوقية الصحراوية، أمينتو حيدار، تحكي رحلتها التي أخذتها إلى المجهول ابتداءً من 21 نوفمبر 1987 إلى غاية 19 يونيو 1991، رفقة العديد من الرفاق الصحراويين والرفيقات الصحراويات ضمن المجموعة التي عُرفتْ لدى الرأي العام بـ "مجموعة البعثة"، المكونة من 48 فرداً بينهم مكفوفين ومختلين عقليا، و10 نساء تراوحت أعمارهن بين 17 و 70 سنة، عاشوا معظم فصول الرحلة الجهنمية في المخبأ السري "البيسي سيمي" السيء الذكر المتواجد على الضفة الجنوبية لوادي الساقية الحمراء، والثكنة العسكرية المعروفة بـ "البير" من مخلفات الإستعمار الإسباني المتواجدة في ضواحي شاطئ العيون المحتلة.
عانت الرفيقة "أمينتو" كسائر الضحايا الصحراويين من التجاهل والتهميش والمُضايقات البُوليسية، ومن الإستفزاز والحرمان من جواز السفر الذي تمت مصادرته منذ لحظة اختطافها...
إن ظاهرة اختطاف المرأة في الصحراء الغربية قد حدثت على نطاق واسع، فقد شكلتْ نسبة المختطفات في إحصاء أولي % 23 من مجموعة قلعة مكونة، آكدز، والعيون المُفرج عنهم سنة 1991، والتي بلغ عددها 378 ضحية، %25 من مجموع المختطفين الصحراويين الذين تم إحصاؤهم من طرف النشطاء الحقوقيين الصحراويين في بحث ميداني لسنة 2000.
الرواية التالية أخذتـُها من شهادتها لجريدة "الصحراء الحرة" في عددها 400، 01 ـ 15 سبتمبر 2004، المعنونة بـ "شهادة موجزة عن معانات المرأة الصحراوية داخل المخابئ السرية المغربية"، وقد حاولتُ أن أضفي عليها جانباً من الخيال دون أن أخرج عن نطاق الشهادة كما حكتها الرفيقة "أمينتو حيدار".
وهذه حكاية امرأة صحراوية مرّتْ بالعديد من محطات العذاب، الناشطة الحقوقية الصحراوية، أمينتو حيدار، تحكي رحلتها التي أخذتها إلى المجهول ابتداءً من 21 نوفمبر 1987 إلى غاية 19 يونيو 1991، رفقة العديد من الرفاق الصحراويين والرفيقات الصحراويات ضمن المجموعة التي عُرفتْ لدى الرأي العام بـ "مجموعة البعثة"، المكونة من 48 فرداً بينهم مكفوفين ومختلين عقليا، و10 نساء تراوحت أعمارهن بين 17 و 70 سنة، عاشوا معظم فصول الرحلة الجهنمية في المخبأ السري "البيسي سيمي" السيء الذكر المتواجد على الضفة الجنوبية لوادي الساقية الحمراء، والثكنة العسكرية المعروفة بـ "البير" من مخلفات الإستعمار الإسباني المتواجدة في ضواحي شاطئ العيون المحتلة.
عانت الرفيقة "أمينتو" كسائر الضحايا الصحراويين من التجاهل والتهميش والمُضايقات البُوليسية، ومن الإستفزاز والحرمان من جواز السفر الذي تمت مصادرته منذ لحظة اختطافها...
إن ظاهرة اختطاف المرأة في الصحراء الغربية قد حدثت على نطاق واسع، فقد شكلتْ نسبة المختطفات في إحصاء أولي % 23 من مجموعة قلعة مكونة، آكدز، والعيون المُفرج عنهم سنة 1991، والتي بلغ عددها 378 ضحية، %25 من مجموع المختطفين الصحراويين الذين تم إحصاؤهم من طرف النشطاء الحقوقيين الصحراويين في بحث ميداني لسنة 2000.
الرواية التالية أخذتـُها من شهادتها لجريدة "الصحراء الحرة" في عددها 400، 01 ـ 15 سبتمبر 2004، المعنونة بـ "شهادة موجزة عن معانات المرأة الصحراوية داخل المخابئ السرية المغربية"، وقد حاولتُ أن أضفي عليها جانباً من الخيال دون أن أخرج عن نطاق الشهادة كما حكتها الرفيقة "أمينتو حيدار".
- رحلة عذاب وتحدي..
غالباً ما كانتْ تقضي مُعظم وقتها بين الرفاق في الثانوية، في البيت، في الحي، في الشارع... داخل "العيون" تحلم بأن تعيش حياة سعيدة بين أحضان شعب حر كريم فوق أرض مستقلة كاملة السيادة، تـُرافقها العديد من الأحلام الجميلة وتـُطاردُها العديد من الكوابيس المُزعجة، وكثيراً ما كان يُوقظها داخل الفصل، في الشارع، في الطريق نحو البيت، في كل مكان ترتاده، صوت الجلاد الذي يُلاحقها، يقول لها بصوت مرتفع يُجلجلُ كالرّعد في مُخيلتها: "أنت تحلمين.. أنت تُهلْوسين.. الله يْطيْحكْ فيْدي وتْشوفي" (أي حين تقعين بين يديّ سترين).
تستفيق.. تلتفت يميناً وشمالاً، تسير إلى الأمام دون معرفة وجهتها، تتيه في أزقة "العيون" بين أجناس مختلطة، تـُهرول، تتريّث، تقف لحظات ثم تـُعاودُ المسير... تـُسائلُ نفسها: "لماذا أنا هنا؟ لماذا هم هنا؟ من الأجدر به أن يكون هنا؟؟"، ثم تتوقف من جديد، تـُمسك رأسها بين يديْها، تنظر إلى الشمس الباردة، و تـُجيبُ نفسها: "مالي أنا؟ ما دخلي؟ المُهمّ أن أعيش والسّلام"... وما تكاد تنتهي من مُحادثة نفسها حتى يُقاطعها صوتٌ خافت قادم من بعيد، من خلف الغيُوم.. يهمس في أذنيها كمن يخشى أن يسمعُه المارّة بجانبها، يقول لها: "لا.. أعيدي النظر، تمعّني جيداً، انبشي الماضي، قلبي صفحات التاريخ.. حتماً ستجدين الجواب".
حاولتْ عبثاً أن تجد تفسيراً للأحلام الجميلة، وأن تجد مخرجاً من دوّامة الكوابيس المُزعجة.
عادتْ إلى البيت فكرتْ مليّاً، نسيتْ كل شيء إلا الصوت الذي طلب منها إعادة النظر والتمعّن والرجُوع إلى الماضي.. لم يُفارقْ تفكيرها؛ عزمتْ على أن تجْعل منه بداية الدراسة والتحضير لرسالة مشرُوعها، أخذت المراجع، جالست الشيُوخ، اعتكفت المكاتب.. لم تتركْ شيئاً خطر على بالها إلا ولجأتْ إليه، جمعتْ رؤوس أقلامها، وقبل الشرُوع في كتابة المقدمة حضرت الخاتمة. إنها رسالة مليئة بالمُعانات المُتراكمة، مليئة بالإجابات، فبعد أن كانتْ تبْحث عن جواب وجدت العديد من الأسئلة.. مرة أخرى أعادتْ كتابة السؤال الذي طالما حيرها، ونقشتْ جوابه على جدار غرفتها: "الأجدر به أن يكون هنا هو أنا".. إذنْ ما العمل؟ كيف تـُثبت ذلك؟ كيف تردّ الإعتبار للعديد ممّن حاولوا قبْلها ولم يُحالفهم الحظ، منهم من تـُوفي ومنهم من أثناه الجلاد، ومنهم من فرض عليه الرحيل، ومنهم من بقي.
خبّرها الرفاق بأن "العيون" ستسْتقبل بعثة أممية إفريقية لتقصي الحقائق بتاريخ 21 نوفمبر 1987، عندها خيل إليها أنها وجدت الحل.. لن تخاف بعد اليوم على مُستقبلها، ستـُـتمّ دراستها، ستنال البكالوريا في شعبتها (العلوم التجريبية) لن يُوقفها الجلاد، لن يحول دون تحقيق أحلامها.. ستشرح للبعثة كل معاناتها ومُعانات شعبها، ستطالبها بتنظيم استفتاء لتقرير المصير.. نهضتْ امتشقتْ قلمها وكتبتْ رسالتها، ترجمتْ نسخة منها إلى الإنجليزية، وثّقتْ فيها كل شيء، وضعتها في المُغلف، حفظتها جيداً عن الأنظار، تنتظر تسليمها "لعبد الرحيم فرح" أو أحد أعضاء البعثة الأممية القادمة.
بقيتْ تنتظر وبيْن الفينة والأخرى، يُعاودها صوتُ الجلاد: "الله يْطيْحكْ فيدي"، فلا تعيره اهتماما، وتتحداه.. سوف تمضي قدماً، سوف تـُكمل المسير.
فجأة توقفتْ حياتها عند العشرين.. في ليلة 21 نوفمبر1987 على الساعة الثالثة صباحاً بعد أن نزعتْ ملحفتها وارتدت بذلة النوم توقف الحُلم، أفزعها خبطٌ شديدٌ على الباب، لم تـُعره اهتماماً، ظنت أنه أحدُ الكوابيس التي تطاردها، مرة أخرى أعيد ضرب الباب..آه!! إنه واقع ليس حلم، هرولت مسرعة نحو ابنة عمّها، أيقظتها من نوم عميق، قاطعت أحلامها، "إنه الجلاد!! إنه الجلاد يا يكّة!!" تلخبطتْ أوراقها، تشتتْ أفكارُها، لم تعُدْ تدري ما تفعل.. أسرعتْ نحو الباب: "من الطارق؟" أجابها الخال: "افتحي هذا أنا"، تنفست الصعداء وفتحت الباب، ثم عادت إلى غرفتها.. أخذت نفساً عميقاً وجففتْ عرقها، وحمدت الله كثيراً.. لحقها الخال، دخل عليها الغرفة ثم نظر إليها نظرة مليئة بالحُزن والخوف معاً، وتنهد قائلا: "الشرطة بانتظارك يا ابنتي، لكن لاتخافي لقد أكدوا لي أنه مجرد استنطاق لن يتعدى ساعة زمن"، حينها عاودها صوتُ الجلاد بداخلها يقول لها كمن يتحدث في كهف مُظلم عميق، وهو يضحك ضحكة كبيرة مخيفة تكرّر صداها مُطولاً في أعماقها "لقد وقعت الآن.. ألم أقل لك ذلك؟"، ارتدتْ ملحفتها، ودّعتْ خالتها التي استيقظتْ على حديثها مع الخال، احتضنتها بقوة كمن أحسّ بأنها اللحظات الأخيرة؛ فعلاً إنها اللحظات الأخيرة قبل خوض غمار الرّحلة الطويلة، انسكبت الدّمُوع، امتزجتْ مع الأحزان.. قبل خروجها إلى المصير المجهول ودّعتْ "يكّة" وأوصتها باللجُوء إلى مكان غير معرُوف، ربما تضمها الرحلة، من يدري؟؟ ثم خرجتْ مخلفة وراءها الرسالة.. توكلت على الله، قصدت الباب وجدتْ أمامها السيّارة التي ستقلها إلى المصير الذي لا يعلمُه إلا الله.. لا!! ليستْ سيّارة أجرة، ليس "petit taxi" إنها "Renault4" بها ثلاثة أشخاص؛ عندما رمقتهم للوهلة الأولى تساءلتْ مع نفسها وهي تخطوا نحوهم: "أيوجد بينهم الجلاد؟".. نزل أحدهم ليُساعدها على الصّعُود وجلس عن يسارها، ثم انطلق عدّادُ رحلة المجْهول.
في الطريق توقفت السيارة وجلس "بن سامي إبراهيم" عن يمينها، وأصبحت بينه وبين "أحريز العربي"، هذا الأخير عندما تحدّث إليها، تعرّفتْ عليه، سمعتْ فيه الصوت الذي كان يدُور دائماً في مُخيلتها، صوت الجلاد الذي طالما كان يُطاردها.. وضع البانضة على عينيها وأمسك برأسها ثم وضعه بين رجليه؛ واصلت السيارة المسير بسرعة فائقة، أحسّت بدوار شديد في رأسها أنساها كل شيء، حتى الأحلام الجميلة.
بدأت رحلة سفرها الطويل في ريعان شبابها وتطلعاتها إلى المستقبل، في العشرين من عمرها، رحلة شاقة إلى وجهة قاتمة، دلائل بداياتها أنها مكان جهنمي، دخلته بعد مسير بضع دقائق.. آه!!.إنه المخبأ السري PC CM (البيسي سيمي) مقر الضيافة!!.. ضيافة كل من يتشبث بمبادئ معينة، أو له علاقة ولو عائلية بأحد المُختفين الصحراويين، أو يستمع للإذاعة الوطنية الصحراوية.. من المضيف يا تـُرى؟؟ إنه الجلاد المغربي!!
لقد استقبلها بساديّته أيّما استقبال، بدأ مباشرة بتطبيق التعليمات، لقد وجد ضالته ونشوته.. سال لعابه، تحقق حلمه، وسرعان ما بدأ في ترجمته إلى واقع في ممارسة أنواع التعذيب.. إنه مصّاصُ الدماء، إنه الذئب الذي ظل طويلاً يرقبُ ضحيته، ويتحين فرصة الإنقضاض.. جاءت الفرصة!! وضعها على الطاولة، ربطها إليها، كبل يديها ورجليها، وترك رأسها متدليّاً نحو الأسفل، انهال عليها بالضرب من كل أنحاء جسمها، ركلها برجليْه، ضربها بالعصي، وجلدها بالسياط، خنقها بالشيفون (خرقة مبللة بمواد كيميائية).. لم يترك شيئاً إلا ومارسه عليها، سبّها وشتمها بأقبح الكلام، هدّدها بالإغتصاب ومسح الدماغ...
ما الأمر؟؟ ما السبب؟؟ آه!! لأنها صحراوية، والجلاد يثور كالبُركان عند مواجهة الصحراويّين، يصبّ حممه المُلتهبة عليهم.. أتعرفون السبب؟؟ فقط لأنها صحراوية!!..
ارتفع صوت الحق مُعلناً صلاة الصبح، ردّدتْ بعده دُعاء الأذان؛ يا لوقاحته.. يا لوقاحة الجلادين سخروا منها، قالوا لها بالحرف الواحد: "متى كان الصحراويّون يعرفون الصلاة، أبناء الكلاب والزناديق.. أنتم مجموعة من الشيوعيّين، تأتمرون بأوامر فيديل كاسترو".
لم تـُعرْهُمْ اهتماماً، حاولتْ تجاهُلهمْ رغم الآلام.. توسلتْ إلى الله عز وجل، سألته المعُونة والصّبْر وتثبيت خطاها.. صفعها الجلاد، تضاعف العذاب، ارتفع صوته كالوحش الضاري، لسان حاله يقول: "تتحدّانا بنْتْ لحْرامْ".. حلّ الصباح سلمها إلى شخص غريب، من هو؟ لم ترهُ بعد، البانضة على عينيْها تحُول دون ذلك؛ وفي رغبة للاعتداد بنفسه، نزع عنها البانضة، بادرها بالسؤال: "هل عرفتني؟".. نظرت إليه: "لا!! لم أعرفك"؛ قال لها بلطف يُحاول استدراجها "أنا السيد بن هاشم، أنا صديق لعائلتك، فارحمي نفسك وتكلمي، لقد أعطيت الأوامر بإيقاف التعذيب عنك"، توقف قليلاً عن الكلام، وتراجع إلى الخلف بخطىً خفيفة، ثم واصل: "لاحول ولا قوة إلا بالله، لماذا فعلت بنفسك وبعائلتك كل هذا؟".. كلامٌ جميل.. صحيح أليس كذلك؟ لكن مهلاً فما هو إلا جلاد ذكي مُتمرس أكثر خبرة في الإستنطاق يُحاول إبداء التعاطف بُغية استدراجها لكشف ما امتنعتْ عن الخوض فيه مع زملائه الجلادين "أحريز العربي" و"بن سامي إبراهيم" و"إبراهيم بلعربي".. إنها سياسة الجلاد، يا لهُ من ثعلب ماكرْ!!..
مضى السبت، تلته ليلة الأحد، الحال نفس الحال... حل صباح الأحد، لقد أنستها الضرباتُ وألم المُعانات؛ كاد أن يُنسيها التعذيب أشد اللحظات التي ارتسمتْ في ذاكرتها، وترسّختْ في مُخيلتها، لن يمْحُوها شيء مهما حاول، كيف؟؟ كيف تنسى؟؟ إنها الرفيقة، رفيقة دربها "الغالية دجيمي"، لم تتعرّف عليها في الوهلة الأولى لشدة حالها؛ إنها ساديّة الجلاد، لاتترُك الحال على طبيعتها، تـُغيّرُ كل شيء حتى الصورة؛ تـُحاولُ عبثاً تغيير مجرى التاريخ، تـُحاولُ عبثاً طمْس المبادئ.. لكن أليس حقيقة أن "من شبّ على شيء شاب عليه؟؟" بلا!! هو كذلك بالفعل.
تكلمتْ بنبرة خافتة حزينة مُتألمة، بوجه مُنتفخ في جسم مُنهار، تحاول اختراق ثيابها التي مزقتها مخالبُ الجلاد ونهشتها كلابه، تعرفتْ عليها وتألمتْ كثيراً لحالها وللحالة المُزرية التي رأتْ فيها الأب الوقور، الشيخ الضريرْ"سيداتي السّلامي".. يا لغباء الجلاد، إنهم فعلاً ذئاب؛ دُهشتْ وكادتْ تصرُخ: "انزعوا البانضة عن عينيْه، إنه ضرير"، لكن كانت السيّارة المُخصّصة للتعذيب التي تجُوب به القاعة قد ابتعدتْ فما عاد الصّراخ يُجدي نفعاً.. عجباً!! كيف يضعُ إنسان غطاءً يُغمضُ به عيني إنسان هو أصلا مُغمض لايرى.. إنسان ضرير؟؟!!.. يا للعجب!!!.
لم تنس حالة الرفيق "بُومهدي عبد الله" الذي اقتلع الجلاد أظافره ورماهُ من قطار الرّحْلة في ظلمات محطاتها ليبْقى مجهول المصير؛ كيف لها أن تمر على كل ذلك مرور الكرام؟؟ كيف لها أن تنس تلك العبارات الخسيسة والحاطة بالكرامة الإنسانية؟؟ كيف لها أن تنس كل ما كان يُعاملها به الجلاد؟؟ كيف لها أن تنس الجلاد "أحريز العربي" على وجه الخصوص؟؟ لكنها تحدّتهُ، وقفتْ في وجْهه شامخة شمُوخ النخلة في وجه الإعصار.. رفضت الكلام حتى يكفّ عن العبارات التي لم تستطع أذناها تحمّلها، هزمته، جعلته يجُرّ أذيال الهزيمة، ثم استسلم، وعندها تأكدتْ بأنه ذئب، بل "أطول منّه الذيبْ وكّفة" (مثل حساني، يعني الذئب أشرف منه)، ترك ميْدان الإستنطاق للجلاد عميد الشرطة "بلعربي".. فعلاً انتصرت المرأة الصحراوية بعفتها الأخلاقية، برفضها للكلام القبيح، حتى وهي مُرغمة، انتصرت بكبريّائها.
حان موعد الشوط الثاني من الرحلة الجهنميّة، أطلق قطار الموت صافرته صبيحة يوم الأحد، أقلها إلى إحدى قلاع الموت.. قلعة خلفها الإستعمار الإسباني، ورّثها للإحتلال المغربي، إنها "ثكنة البير" على ضفاف شواطئ "العُيُون"، توقف القطار، أخذتْ حقائب آلامها، نزلتْ ثم وضعتها في غرفة مساحتها 02 إلى 03 متر مربع، فسحتْ لها المجال الرفيقات الستة عشر اللائي وجدتهُن أمامها، حالتْ البانضة دون رؤيتهن لبعضهن البعض، أدركت أنهن تعرّفن عليْها، أحسسْن بقدُومها.. رقمٌ جديدٌ أضيف إلى القائمة.
مكثتْ معهُن أسبوعاً كاملاً، المسكيناتُ لم يكنّ يستطعن الحديث إلا نادراً.. أسبوعاً مرّ كاملاً عليْها جالسة القرفصاء.. لا نوم.. لا فراش.. لا غطاء، مع الجوع والعطش...
انقضت أربعة أيّام، دوّى صوتٌ عال رهيب كسر هُدوء الزنزانة، فزع الكل.. إنه أحدُ الحُرّاس يصرُخ: "ريّقْ.. ريّقْ ليمّاكْ" يحمل قنينة من الماء القذر، كقرّاب قادم من ساحة "جامعْ لفْنى"، أما أكلُ المسكيناتْ فشبه منعدم، بل هو أصلاً مُنعدم، كيف تأكل؟؟ كيف يأكلن.. إذا كانتْ حتى الكلابُ تنفرُ من ذلك الأكل؟؟ لكن ما أقبح الجوع عندما يشتد، تصيحُ الأمعاءُ الخاويّة، يضطرّ المُعتقلون إلى أكله رغم كثرة الأوساخ وأنواع الحشرات به والأسلاك والشعيرات.. لم تستطعْ نسيان ساديّة الجلاد عندما طلبهُ أحد الرّفاق الزيّادة في الأكل، حين ردّ عليه: "الزيادة من راسْ لحمقْ"، لم تنس كذلك الجلاد عندما تـُسوّلُ له نفسه أن يزيد مقدار الأكل عندما يُضيف إليه جافيلْ وكْريزيلْ وكذلك البوْل.
كانت تمُرّ الأيّام تلو الأيّامْ، والليالي تعقبُ الليالي، ورؤوس المُسافرين مُتجهة صوْب الحائط في انتظار انتهاء الرحلة؛ لقد طالت الرحلة.. كان الصّراخ والأنين من شدة عذاب الرحلة وسادية الجلاد يحُول دُون أخذ المُسافر قسطاً من الرّاحة بيْن المحطات.
في الزنزانة المُجاورة لزنزانتها كان الأسد الرفيق "محمد الخليل عيّاشْ" يزأرُ متحدّيّاً جلادهُ، رافضاً الخضوع والإستسْلام، لا يأبه بضرباته المُوجعة على الرأس وهو يحاول إجباره على ترديد عبارات لا تعنيه، كان الجلاد يُحاولُ إرغامه على ترديد "مغربية الصحراء".. قضى الليْثُ أسبوعاً كاملاً زئيره ينهشُ جبرُوت الجلاد، إلى أن خارت قواه، وبدأ صوته ينخفضُ شيئاً فشيْئاً، إلى أن سقط من شدة التعذيب؛ رمى به الأوغاد كالجُثة الهامدة داخل غرفة تـُستعْمل كمرحاض.. رأتهُ بعد أن داستْ على ذراعه، لم تكن تراه، حالت البانضة دون ذلك، أحسّتْ بأنها داستْ على شيء ثمّ همستْ إلى بانضتها: "هل يراقبني الجلاد؟"، أجابتها: "لا.. إنه مشغول الآن"، ثم طلبتْ منها أن تسمح لها بإلقاء نظرة فوافقت، ونظرت قليلاً ورأتهُ بقميص شبْه بُني مرميّاً وسط النفايات؛ تألمتْ كثيراً.. ماذا ستقول لأمه المُسنة المُرافقة لها في الرحلة؛ كانت الأم المسكينة تسْمعُ صراخ شبْلها في الزنزانة المُجاورة، كانت تسمع رفضه "لمغربية الصحراء" وتزدادُ به فخراً إلى أن تـُعانق السّماء، لكن يا تـُرى هل تدري أين هو الآن؟؟ ماذا حل به؟؟ لا.. فالأم المسكينة لم تكتملْ فرحتها، لم تره بعد خرُوجها من ظلمات الزنازن، لم تره بعد انتهاء رحْلتها، لم تره بعد تملصها حيّة من قبْضة الجلاد الذئب.. إنه مفقودٌ مجهُول المصير كغيره من مئات الرّمُوز نهشتهم أنيابُ الجلاد.
لازال قطار رحلة الموت يسيرُ ببُطئ شديد، كانت تعُد فيه الأيام، تمُرّ عليها كأنها دُهور.. لم تنس رفيقتها في رحلة المُعاناة، رفيقة دربها "أفْطيْمْ منتْ سعيد" المسكينة أرغمها الجلاد على ركوب القطار، انتشلها من أحضان رضيعتها ابنة الأسبوعين أو الثلاثة على الأكثر، حرمها الذئبُ من احتضانها وإرضاعها، المسكينة تربّت بحليب أخرياتْ؛ كثرت مُعاناتُ "أفْطيْمْ" ازدادتْ آلامُها، انتفخت ثدْياها من تجمّع الحليب، كانت الرفيقاتُ تستجْدي الحُرّاس أن يأتينهُن بقنينة ماء دافئ لتخفيف آلامها، لكن دون جدوى، يأبى الجلاد فتضطرّ إحدى الرّفيقات لرضْع الأثداء بيْن الحين والحين لتخفيف المعاناة والآلام.. آه!! يا لظلم الجلاد، ويا لبسالة وشجاعة المرأة الصحراوية.
مرّ أسبوعٌ من حياة جهنمية، انقضى وكأنه قرون من الزمن، عاد بها القطار إلى محطته الأولى، أقلها مرة أخرى من"البير" إلى ثكنة "البيسي سيمي"، كانت فصُول الرحلة تسيرُ من محطة تدفعها إلى أخرى دون أن يجرؤ أحد على السّؤال، كم بقيّ على الوصول أو متى تنتهي الرحلة؟؟ حتى أهلها وذووها بالخارج لا يجْرؤون على السؤال؛ فمن يسأل يُقحمه الجلاد داخل القطار.
تواصل الإستنطاق وطال، واختلط الليْلُ بالنهار، امتزجا بأصناف وألوان التعذيب.. تمُرّ الليلة الواحدة عليْها وتحْسبُها السنة من شدة البرد القارس.. الفراشُ عبارة عن قطعة لحاف رقيقة جداً باليّة ومُمزقة، والغطاء هو الآخر يفوح برائحة نتنة تتقزز منه إلى حدّ الغثيان، وتتألم أكثر لمّا تتذكرُ أن هذه الأغطيّة تعاقب عليْها المئات من المُختطفين الصحراويّين الذين سافرُوا عبْر نفس الرّحلة ولم يُسمعْ عنهُم خبر.
مرّتْ سنة، والمسكينة على نفس الحال في دهليز ضيق لا يتعدّى عرضه المتر والنصف، وطوله قد يصل إلى حوالي الخمسة عشر متراً، اصطفت به الزنازن على خط واحد.. هجرها النوم طيلة الرحلة، أصيبت بالأرق؛ يأمرها الجلاد بأن تظل جالسة مُتجهة صوْب الحائط، وهذا الجلاد أرحمُ بها من الجلاد الآخر الذي لا يتركها تنام أكثر من نصف ساعة بفعله العنجهي بصُراخه المُتوحش، وضربه العنيف على أبواب الزنازن.
يالها من رحلة طويلة مُظلمة، أربع سنوات والبانضة لم تفارق عينيْها، أربعُ سنوات والمحطات مظلمة عفنة لا أشعة ولا تهوئة بها، عانتْ كثيراً من الأمراض، سبّبت لها الرحلة منذ الوهلة الأولى أمراض المعدة والأمعاء، روماتيزم المفاصل، آلام الظهر، حساسيّة الجلد، آلام العيْنيْن.. رغم كل الأمراض والمُعاناة لم يكن مسموحاً لها بالتطبيب، كانت أوامر"صالح زمراكْ" (الحاكم المغربي لمدينة العيون المحتلة) تحُولُ دون ذلك، رغم كل العذاب والحرمان والمُعاناة، لم تنس ولم تفتها الفرصة لتنوه بالمعاملة الطيّبة الإنسانيّة التي تعامل بها معها بعضُ الحُرّاس ذوي الضمائر الإنسانيّة الحيّة.
كانتْ رحلتها طويلة شاقة ومُتعبة، تفنن فيها الجلاد بمُمارسة كل أنواع العذاب.. ظلت شامخة صلبة مُتحدية إلى أن انتهت الرحلة، وحل الفرج؛ بزغتْ شمسُ الحُريّة يوم 19 يونيو 1991، خرجتْ بجسم منهار بيْن الحياة والموت، ولكنها واصلت المسير وبقيّتْ تقارعُ الجلاد، تقفُ في وجْهه تدافع عن الضحايا، تجُوب العالم تنشر قضيّتها، وتظهرُ مُعانات شعْبها، تشق طريقها يوماً بعد يوم نحو الحرية؛ يا لصلابتها.. يا لشجاعتها.. فعلاً إنها المرأة الصحراوية.
شعبْ الصّحْرا مـا كًط ركْ معْلومْ ومْع بســــــالَ
لعْليــــاتْ أعْليـــــاتْ حـكْ والرّجّالَ رجّـــــــــــالَ.
* ملاحظة: كل الأسماء الواردة في النص هي أسماءٌ حقيقيّة لمُعتقلين صحراويّين سابقين، مفقودين أو جلادين مغاربة معرُوفين بجرائمهم المرتكبة ضد ضحايا الاختطاف بالعيون المحتلة.
تستفيق.. تلتفت يميناً وشمالاً، تسير إلى الأمام دون معرفة وجهتها، تتيه في أزقة "العيون" بين أجناس مختلطة، تـُهرول، تتريّث، تقف لحظات ثم تـُعاودُ المسير... تـُسائلُ نفسها: "لماذا أنا هنا؟ لماذا هم هنا؟ من الأجدر به أن يكون هنا؟؟"، ثم تتوقف من جديد، تـُمسك رأسها بين يديْها، تنظر إلى الشمس الباردة، و تـُجيبُ نفسها: "مالي أنا؟ ما دخلي؟ المُهمّ أن أعيش والسّلام"... وما تكاد تنتهي من مُحادثة نفسها حتى يُقاطعها صوتٌ خافت قادم من بعيد، من خلف الغيُوم.. يهمس في أذنيها كمن يخشى أن يسمعُه المارّة بجانبها، يقول لها: "لا.. أعيدي النظر، تمعّني جيداً، انبشي الماضي، قلبي صفحات التاريخ.. حتماً ستجدين الجواب".
حاولتْ عبثاً أن تجد تفسيراً للأحلام الجميلة، وأن تجد مخرجاً من دوّامة الكوابيس المُزعجة.
عادتْ إلى البيت فكرتْ مليّاً، نسيتْ كل شيء إلا الصوت الذي طلب منها إعادة النظر والتمعّن والرجُوع إلى الماضي.. لم يُفارقْ تفكيرها؛ عزمتْ على أن تجْعل منه بداية الدراسة والتحضير لرسالة مشرُوعها، أخذت المراجع، جالست الشيُوخ، اعتكفت المكاتب.. لم تتركْ شيئاً خطر على بالها إلا ولجأتْ إليه، جمعتْ رؤوس أقلامها، وقبل الشرُوع في كتابة المقدمة حضرت الخاتمة. إنها رسالة مليئة بالمُعانات المُتراكمة، مليئة بالإجابات، فبعد أن كانتْ تبْحث عن جواب وجدت العديد من الأسئلة.. مرة أخرى أعادتْ كتابة السؤال الذي طالما حيرها، ونقشتْ جوابه على جدار غرفتها: "الأجدر به أن يكون هنا هو أنا".. إذنْ ما العمل؟ كيف تـُثبت ذلك؟ كيف تردّ الإعتبار للعديد ممّن حاولوا قبْلها ولم يُحالفهم الحظ، منهم من تـُوفي ومنهم من أثناه الجلاد، ومنهم من فرض عليه الرحيل، ومنهم من بقي.
خبّرها الرفاق بأن "العيون" ستسْتقبل بعثة أممية إفريقية لتقصي الحقائق بتاريخ 21 نوفمبر 1987، عندها خيل إليها أنها وجدت الحل.. لن تخاف بعد اليوم على مُستقبلها، ستـُـتمّ دراستها، ستنال البكالوريا في شعبتها (العلوم التجريبية) لن يُوقفها الجلاد، لن يحول دون تحقيق أحلامها.. ستشرح للبعثة كل معاناتها ومُعانات شعبها، ستطالبها بتنظيم استفتاء لتقرير المصير.. نهضتْ امتشقتْ قلمها وكتبتْ رسالتها، ترجمتْ نسخة منها إلى الإنجليزية، وثّقتْ فيها كل شيء، وضعتها في المُغلف، حفظتها جيداً عن الأنظار، تنتظر تسليمها "لعبد الرحيم فرح" أو أحد أعضاء البعثة الأممية القادمة.
بقيتْ تنتظر وبيْن الفينة والأخرى، يُعاودها صوتُ الجلاد: "الله يْطيْحكْ فيدي"، فلا تعيره اهتماما، وتتحداه.. سوف تمضي قدماً، سوف تـُكمل المسير.
فجأة توقفتْ حياتها عند العشرين.. في ليلة 21 نوفمبر1987 على الساعة الثالثة صباحاً بعد أن نزعتْ ملحفتها وارتدت بذلة النوم توقف الحُلم، أفزعها خبطٌ شديدٌ على الباب، لم تـُعره اهتماماً، ظنت أنه أحدُ الكوابيس التي تطاردها، مرة أخرى أعيد ضرب الباب..آه!! إنه واقع ليس حلم، هرولت مسرعة نحو ابنة عمّها، أيقظتها من نوم عميق، قاطعت أحلامها، "إنه الجلاد!! إنه الجلاد يا يكّة!!" تلخبطتْ أوراقها، تشتتْ أفكارُها، لم تعُدْ تدري ما تفعل.. أسرعتْ نحو الباب: "من الطارق؟" أجابها الخال: "افتحي هذا أنا"، تنفست الصعداء وفتحت الباب، ثم عادت إلى غرفتها.. أخذت نفساً عميقاً وجففتْ عرقها، وحمدت الله كثيراً.. لحقها الخال، دخل عليها الغرفة ثم نظر إليها نظرة مليئة بالحُزن والخوف معاً، وتنهد قائلا: "الشرطة بانتظارك يا ابنتي، لكن لاتخافي لقد أكدوا لي أنه مجرد استنطاق لن يتعدى ساعة زمن"، حينها عاودها صوتُ الجلاد بداخلها يقول لها كمن يتحدث في كهف مُظلم عميق، وهو يضحك ضحكة كبيرة مخيفة تكرّر صداها مُطولاً في أعماقها "لقد وقعت الآن.. ألم أقل لك ذلك؟"، ارتدتْ ملحفتها، ودّعتْ خالتها التي استيقظتْ على حديثها مع الخال، احتضنتها بقوة كمن أحسّ بأنها اللحظات الأخيرة؛ فعلاً إنها اللحظات الأخيرة قبل خوض غمار الرّحلة الطويلة، انسكبت الدّمُوع، امتزجتْ مع الأحزان.. قبل خروجها إلى المصير المجهول ودّعتْ "يكّة" وأوصتها باللجُوء إلى مكان غير معرُوف، ربما تضمها الرحلة، من يدري؟؟ ثم خرجتْ مخلفة وراءها الرسالة.. توكلت على الله، قصدت الباب وجدتْ أمامها السيّارة التي ستقلها إلى المصير الذي لا يعلمُه إلا الله.. لا!! ليستْ سيّارة أجرة، ليس "petit taxi" إنها "Renault4" بها ثلاثة أشخاص؛ عندما رمقتهم للوهلة الأولى تساءلتْ مع نفسها وهي تخطوا نحوهم: "أيوجد بينهم الجلاد؟".. نزل أحدهم ليُساعدها على الصّعُود وجلس عن يسارها، ثم انطلق عدّادُ رحلة المجْهول.
في الطريق توقفت السيارة وجلس "بن سامي إبراهيم" عن يمينها، وأصبحت بينه وبين "أحريز العربي"، هذا الأخير عندما تحدّث إليها، تعرّفتْ عليه، سمعتْ فيه الصوت الذي كان يدُور دائماً في مُخيلتها، صوت الجلاد الذي طالما كان يُطاردها.. وضع البانضة على عينيها وأمسك برأسها ثم وضعه بين رجليه؛ واصلت السيارة المسير بسرعة فائقة، أحسّت بدوار شديد في رأسها أنساها كل شيء، حتى الأحلام الجميلة.
بدأت رحلة سفرها الطويل في ريعان شبابها وتطلعاتها إلى المستقبل، في العشرين من عمرها، رحلة شاقة إلى وجهة قاتمة، دلائل بداياتها أنها مكان جهنمي، دخلته بعد مسير بضع دقائق.. آه!!.إنه المخبأ السري PC CM (البيسي سيمي) مقر الضيافة!!.. ضيافة كل من يتشبث بمبادئ معينة، أو له علاقة ولو عائلية بأحد المُختفين الصحراويين، أو يستمع للإذاعة الوطنية الصحراوية.. من المضيف يا تـُرى؟؟ إنه الجلاد المغربي!!
لقد استقبلها بساديّته أيّما استقبال، بدأ مباشرة بتطبيق التعليمات، لقد وجد ضالته ونشوته.. سال لعابه، تحقق حلمه، وسرعان ما بدأ في ترجمته إلى واقع في ممارسة أنواع التعذيب.. إنه مصّاصُ الدماء، إنه الذئب الذي ظل طويلاً يرقبُ ضحيته، ويتحين فرصة الإنقضاض.. جاءت الفرصة!! وضعها على الطاولة، ربطها إليها، كبل يديها ورجليها، وترك رأسها متدليّاً نحو الأسفل، انهال عليها بالضرب من كل أنحاء جسمها، ركلها برجليْه، ضربها بالعصي، وجلدها بالسياط، خنقها بالشيفون (خرقة مبللة بمواد كيميائية).. لم يترك شيئاً إلا ومارسه عليها، سبّها وشتمها بأقبح الكلام، هدّدها بالإغتصاب ومسح الدماغ...
ما الأمر؟؟ ما السبب؟؟ آه!! لأنها صحراوية، والجلاد يثور كالبُركان عند مواجهة الصحراويّين، يصبّ حممه المُلتهبة عليهم.. أتعرفون السبب؟؟ فقط لأنها صحراوية!!..
ارتفع صوت الحق مُعلناً صلاة الصبح، ردّدتْ بعده دُعاء الأذان؛ يا لوقاحته.. يا لوقاحة الجلادين سخروا منها، قالوا لها بالحرف الواحد: "متى كان الصحراويّون يعرفون الصلاة، أبناء الكلاب والزناديق.. أنتم مجموعة من الشيوعيّين، تأتمرون بأوامر فيديل كاسترو".
لم تـُعرْهُمْ اهتماماً، حاولتْ تجاهُلهمْ رغم الآلام.. توسلتْ إلى الله عز وجل، سألته المعُونة والصّبْر وتثبيت خطاها.. صفعها الجلاد، تضاعف العذاب، ارتفع صوته كالوحش الضاري، لسان حاله يقول: "تتحدّانا بنْتْ لحْرامْ".. حلّ الصباح سلمها إلى شخص غريب، من هو؟ لم ترهُ بعد، البانضة على عينيْها تحُول دون ذلك؛ وفي رغبة للاعتداد بنفسه، نزع عنها البانضة، بادرها بالسؤال: "هل عرفتني؟".. نظرت إليه: "لا!! لم أعرفك"؛ قال لها بلطف يُحاول استدراجها "أنا السيد بن هاشم، أنا صديق لعائلتك، فارحمي نفسك وتكلمي، لقد أعطيت الأوامر بإيقاف التعذيب عنك"، توقف قليلاً عن الكلام، وتراجع إلى الخلف بخطىً خفيفة، ثم واصل: "لاحول ولا قوة إلا بالله، لماذا فعلت بنفسك وبعائلتك كل هذا؟".. كلامٌ جميل.. صحيح أليس كذلك؟ لكن مهلاً فما هو إلا جلاد ذكي مُتمرس أكثر خبرة في الإستنطاق يُحاول إبداء التعاطف بُغية استدراجها لكشف ما امتنعتْ عن الخوض فيه مع زملائه الجلادين "أحريز العربي" و"بن سامي إبراهيم" و"إبراهيم بلعربي".. إنها سياسة الجلاد، يا لهُ من ثعلب ماكرْ!!..
مضى السبت، تلته ليلة الأحد، الحال نفس الحال... حل صباح الأحد، لقد أنستها الضرباتُ وألم المُعانات؛ كاد أن يُنسيها التعذيب أشد اللحظات التي ارتسمتْ في ذاكرتها، وترسّختْ في مُخيلتها، لن يمْحُوها شيء مهما حاول، كيف؟؟ كيف تنسى؟؟ إنها الرفيقة، رفيقة دربها "الغالية دجيمي"، لم تتعرّف عليها في الوهلة الأولى لشدة حالها؛ إنها ساديّة الجلاد، لاتترُك الحال على طبيعتها، تـُغيّرُ كل شيء حتى الصورة؛ تـُحاولُ عبثاً تغيير مجرى التاريخ، تـُحاولُ عبثاً طمْس المبادئ.. لكن أليس حقيقة أن "من شبّ على شيء شاب عليه؟؟" بلا!! هو كذلك بالفعل.
تكلمتْ بنبرة خافتة حزينة مُتألمة، بوجه مُنتفخ في جسم مُنهار، تحاول اختراق ثيابها التي مزقتها مخالبُ الجلاد ونهشتها كلابه، تعرفتْ عليها وتألمتْ كثيراً لحالها وللحالة المُزرية التي رأتْ فيها الأب الوقور، الشيخ الضريرْ"سيداتي السّلامي".. يا لغباء الجلاد، إنهم فعلاً ذئاب؛ دُهشتْ وكادتْ تصرُخ: "انزعوا البانضة عن عينيْه، إنه ضرير"، لكن كانت السيّارة المُخصّصة للتعذيب التي تجُوب به القاعة قد ابتعدتْ فما عاد الصّراخ يُجدي نفعاً.. عجباً!! كيف يضعُ إنسان غطاءً يُغمضُ به عيني إنسان هو أصلا مُغمض لايرى.. إنسان ضرير؟؟!!.. يا للعجب!!!.
لم تنس حالة الرفيق "بُومهدي عبد الله" الذي اقتلع الجلاد أظافره ورماهُ من قطار الرّحْلة في ظلمات محطاتها ليبْقى مجهول المصير؛ كيف لها أن تمر على كل ذلك مرور الكرام؟؟ كيف لها أن تنس تلك العبارات الخسيسة والحاطة بالكرامة الإنسانية؟؟ كيف لها أن تنس كل ما كان يُعاملها به الجلاد؟؟ كيف لها أن تنس الجلاد "أحريز العربي" على وجه الخصوص؟؟ لكنها تحدّتهُ، وقفتْ في وجْهه شامخة شمُوخ النخلة في وجه الإعصار.. رفضت الكلام حتى يكفّ عن العبارات التي لم تستطع أذناها تحمّلها، هزمته، جعلته يجُرّ أذيال الهزيمة، ثم استسلم، وعندها تأكدتْ بأنه ذئب، بل "أطول منّه الذيبْ وكّفة" (مثل حساني، يعني الذئب أشرف منه)، ترك ميْدان الإستنطاق للجلاد عميد الشرطة "بلعربي".. فعلاً انتصرت المرأة الصحراوية بعفتها الأخلاقية، برفضها للكلام القبيح، حتى وهي مُرغمة، انتصرت بكبريّائها.
حان موعد الشوط الثاني من الرحلة الجهنميّة، أطلق قطار الموت صافرته صبيحة يوم الأحد، أقلها إلى إحدى قلاع الموت.. قلعة خلفها الإستعمار الإسباني، ورّثها للإحتلال المغربي، إنها "ثكنة البير" على ضفاف شواطئ "العُيُون"، توقف القطار، أخذتْ حقائب آلامها، نزلتْ ثم وضعتها في غرفة مساحتها 02 إلى 03 متر مربع، فسحتْ لها المجال الرفيقات الستة عشر اللائي وجدتهُن أمامها، حالتْ البانضة دون رؤيتهن لبعضهن البعض، أدركت أنهن تعرّفن عليْها، أحسسْن بقدُومها.. رقمٌ جديدٌ أضيف إلى القائمة.
مكثتْ معهُن أسبوعاً كاملاً، المسكيناتُ لم يكنّ يستطعن الحديث إلا نادراً.. أسبوعاً مرّ كاملاً عليْها جالسة القرفصاء.. لا نوم.. لا فراش.. لا غطاء، مع الجوع والعطش...
انقضت أربعة أيّام، دوّى صوتٌ عال رهيب كسر هُدوء الزنزانة، فزع الكل.. إنه أحدُ الحُرّاس يصرُخ: "ريّقْ.. ريّقْ ليمّاكْ" يحمل قنينة من الماء القذر، كقرّاب قادم من ساحة "جامعْ لفْنى"، أما أكلُ المسكيناتْ فشبه منعدم، بل هو أصلاً مُنعدم، كيف تأكل؟؟ كيف يأكلن.. إذا كانتْ حتى الكلابُ تنفرُ من ذلك الأكل؟؟ لكن ما أقبح الجوع عندما يشتد، تصيحُ الأمعاءُ الخاويّة، يضطرّ المُعتقلون إلى أكله رغم كثرة الأوساخ وأنواع الحشرات به والأسلاك والشعيرات.. لم تستطعْ نسيان ساديّة الجلاد عندما طلبهُ أحد الرّفاق الزيّادة في الأكل، حين ردّ عليه: "الزيادة من راسْ لحمقْ"، لم تنس كذلك الجلاد عندما تـُسوّلُ له نفسه أن يزيد مقدار الأكل عندما يُضيف إليه جافيلْ وكْريزيلْ وكذلك البوْل.
كانت تمُرّ الأيّام تلو الأيّامْ، والليالي تعقبُ الليالي، ورؤوس المُسافرين مُتجهة صوْب الحائط في انتظار انتهاء الرحلة؛ لقد طالت الرحلة.. كان الصّراخ والأنين من شدة عذاب الرحلة وسادية الجلاد يحُول دُون أخذ المُسافر قسطاً من الرّاحة بيْن المحطات.
في الزنزانة المُجاورة لزنزانتها كان الأسد الرفيق "محمد الخليل عيّاشْ" يزأرُ متحدّيّاً جلادهُ، رافضاً الخضوع والإستسْلام، لا يأبه بضرباته المُوجعة على الرأس وهو يحاول إجباره على ترديد عبارات لا تعنيه، كان الجلاد يُحاولُ إرغامه على ترديد "مغربية الصحراء".. قضى الليْثُ أسبوعاً كاملاً زئيره ينهشُ جبرُوت الجلاد، إلى أن خارت قواه، وبدأ صوته ينخفضُ شيئاً فشيْئاً، إلى أن سقط من شدة التعذيب؛ رمى به الأوغاد كالجُثة الهامدة داخل غرفة تـُستعْمل كمرحاض.. رأتهُ بعد أن داستْ على ذراعه، لم تكن تراه، حالت البانضة دون ذلك، أحسّتْ بأنها داستْ على شيء ثمّ همستْ إلى بانضتها: "هل يراقبني الجلاد؟"، أجابتها: "لا.. إنه مشغول الآن"، ثم طلبتْ منها أن تسمح لها بإلقاء نظرة فوافقت، ونظرت قليلاً ورأتهُ بقميص شبْه بُني مرميّاً وسط النفايات؛ تألمتْ كثيراً.. ماذا ستقول لأمه المُسنة المُرافقة لها في الرحلة؛ كانت الأم المسكينة تسْمعُ صراخ شبْلها في الزنزانة المُجاورة، كانت تسمع رفضه "لمغربية الصحراء" وتزدادُ به فخراً إلى أن تـُعانق السّماء، لكن يا تـُرى هل تدري أين هو الآن؟؟ ماذا حل به؟؟ لا.. فالأم المسكينة لم تكتملْ فرحتها، لم تره بعد خرُوجها من ظلمات الزنازن، لم تره بعد انتهاء رحْلتها، لم تره بعد تملصها حيّة من قبْضة الجلاد الذئب.. إنه مفقودٌ مجهُول المصير كغيره من مئات الرّمُوز نهشتهم أنيابُ الجلاد.
لازال قطار رحلة الموت يسيرُ ببُطئ شديد، كانت تعُد فيه الأيام، تمُرّ عليها كأنها دُهور.. لم تنس رفيقتها في رحلة المُعاناة، رفيقة دربها "أفْطيْمْ منتْ سعيد" المسكينة أرغمها الجلاد على ركوب القطار، انتشلها من أحضان رضيعتها ابنة الأسبوعين أو الثلاثة على الأكثر، حرمها الذئبُ من احتضانها وإرضاعها، المسكينة تربّت بحليب أخرياتْ؛ كثرت مُعاناتُ "أفْطيْمْ" ازدادتْ آلامُها، انتفخت ثدْياها من تجمّع الحليب، كانت الرفيقاتُ تستجْدي الحُرّاس أن يأتينهُن بقنينة ماء دافئ لتخفيف آلامها، لكن دون جدوى، يأبى الجلاد فتضطرّ إحدى الرّفيقات لرضْع الأثداء بيْن الحين والحين لتخفيف المعاناة والآلام.. آه!! يا لظلم الجلاد، ويا لبسالة وشجاعة المرأة الصحراوية.
مرّ أسبوعٌ من حياة جهنمية، انقضى وكأنه قرون من الزمن، عاد بها القطار إلى محطته الأولى، أقلها مرة أخرى من"البير" إلى ثكنة "البيسي سيمي"، كانت فصُول الرحلة تسيرُ من محطة تدفعها إلى أخرى دون أن يجرؤ أحد على السّؤال، كم بقيّ على الوصول أو متى تنتهي الرحلة؟؟ حتى أهلها وذووها بالخارج لا يجْرؤون على السؤال؛ فمن يسأل يُقحمه الجلاد داخل القطار.
تواصل الإستنطاق وطال، واختلط الليْلُ بالنهار، امتزجا بأصناف وألوان التعذيب.. تمُرّ الليلة الواحدة عليْها وتحْسبُها السنة من شدة البرد القارس.. الفراشُ عبارة عن قطعة لحاف رقيقة جداً باليّة ومُمزقة، والغطاء هو الآخر يفوح برائحة نتنة تتقزز منه إلى حدّ الغثيان، وتتألم أكثر لمّا تتذكرُ أن هذه الأغطيّة تعاقب عليْها المئات من المُختطفين الصحراويّين الذين سافرُوا عبْر نفس الرّحلة ولم يُسمعْ عنهُم خبر.
مرّتْ سنة، والمسكينة على نفس الحال في دهليز ضيق لا يتعدّى عرضه المتر والنصف، وطوله قد يصل إلى حوالي الخمسة عشر متراً، اصطفت به الزنازن على خط واحد.. هجرها النوم طيلة الرحلة، أصيبت بالأرق؛ يأمرها الجلاد بأن تظل جالسة مُتجهة صوْب الحائط، وهذا الجلاد أرحمُ بها من الجلاد الآخر الذي لا يتركها تنام أكثر من نصف ساعة بفعله العنجهي بصُراخه المُتوحش، وضربه العنيف على أبواب الزنازن.
يالها من رحلة طويلة مُظلمة، أربع سنوات والبانضة لم تفارق عينيْها، أربعُ سنوات والمحطات مظلمة عفنة لا أشعة ولا تهوئة بها، عانتْ كثيراً من الأمراض، سبّبت لها الرحلة منذ الوهلة الأولى أمراض المعدة والأمعاء، روماتيزم المفاصل، آلام الظهر، حساسيّة الجلد، آلام العيْنيْن.. رغم كل الأمراض والمُعاناة لم يكن مسموحاً لها بالتطبيب، كانت أوامر"صالح زمراكْ" (الحاكم المغربي لمدينة العيون المحتلة) تحُولُ دون ذلك، رغم كل العذاب والحرمان والمُعاناة، لم تنس ولم تفتها الفرصة لتنوه بالمعاملة الطيّبة الإنسانيّة التي تعامل بها معها بعضُ الحُرّاس ذوي الضمائر الإنسانيّة الحيّة.
كانتْ رحلتها طويلة شاقة ومُتعبة، تفنن فيها الجلاد بمُمارسة كل أنواع العذاب.. ظلت شامخة صلبة مُتحدية إلى أن انتهت الرحلة، وحل الفرج؛ بزغتْ شمسُ الحُريّة يوم 19 يونيو 1991، خرجتْ بجسم منهار بيْن الحياة والموت، ولكنها واصلت المسير وبقيّتْ تقارعُ الجلاد، تقفُ في وجْهه تدافع عن الضحايا، تجُوب العالم تنشر قضيّتها، وتظهرُ مُعانات شعْبها، تشق طريقها يوماً بعد يوم نحو الحرية؛ يا لصلابتها.. يا لشجاعتها.. فعلاً إنها المرأة الصحراوية.
شعبْ الصّحْرا مـا كًط ركْ معْلومْ ومْع بســــــالَ
لعْليــــاتْ أعْليـــــاتْ حـكْ والرّجّالَ رجّـــــــــــالَ.
* ملاحظة: كل الأسماء الواردة في النص هي أسماءٌ حقيقيّة لمُعتقلين صحراويّين سابقين، مفقودين أو جلادين مغاربة معرُوفين بجرائمهم المرتكبة ضد ضحايا الاختطاف بالعيون المحتلة.
كتب في: 28 سبتمبر 2007
بقلم: محمد هلاب
هناك تعليق واحد:
salamo 3alaykom chokran 3ala hadihi almodawana wa2a9ol aminato haydar layth sahra wada9at al2amarayn fida5il asojon almarribiya wafi al5aris min motaradat al2isti5barat almarribiya
إرسال تعليق