بقلم: أحمد المهدي |
تخيّل أنك غصت في نوم
عميق يوماً من الساعة الثامنة صباحاَ ولم تستيقظ إلا بعد 5 أيام على الساعة الثانسة
عشر زوالاَ، لتجد نفسك منهك ومرهق لتنام ثلاثة أيام إضافية، هذا ما حصل في حكاية
خاض مغامرتها شاب صحراوي أثناء زيارته إلى مدينة العيون المحتلة ضمن برنامج تبادل الزيارات بين العائلات الصحراوية
المتواجدة في المناطق المحتلة ومخيمات اللاجئين الصحراويين، التي تنظمها الأمم
المتحدة؛ سنحاول سرد وقائع وأحداث رحلة الحلم التي انطلقت يوم 13 ماي 2011 من
مخيمات اللاجئين الصحراويين في اتجاه المناطق المحتلة من الصحراء الغربية.
ولد وترعرعه هذا الشاب في المناطق
المحتلة من الصحراء الغربية وبالضبط في عاصمتها العيون، عاش حياة مليئة بالمحافل
والنضال والمقاومة بمختلف أشكالها ضد الاحتلال المغربي رفقة مجموعة من الشباب
الطامحين والقادرين على إحداث الفارق وتغيير الموازين في الشارع الصحراوي، مما كان
لابد لقوات الاحتلال المغربي من التخلص منهم بأي شكل من الأشكال، وقد تسنى لها ذلك
بعد سنوات، حيث تم تهجيره رفقة رفاقه خارج المناطق المحتلة من الصحراء الغربية.
بعد مرور 10 سنوات من الزمن على
التهجير القسري الذي تعرض له الشاب من قِبل قوات الاحتلال المغربية والذي دفعه
للهجرة قسراً خارج المناطق المحتلة، وعندما كان التهجير خياراً إجبارياً لا مناص
منه اختار الشاب الهجرة إلي مخيمات اللاجئين الصحراويين ليبدأ صفحة جديدة من
المقاومة؛ وخلال كل هذه الـ 10 سنوات من الغياب عن أهله وطنه، عاش هذا الشباب ولا
يزال على أمل العودة إلى الوطن مرفوع الرأس.
في أوائل شهر ماي من سنة 2011، ورد
للشاب اتصال من أخيه بمدينة العيون مفاده أن بعثة "المينورسو" التابعة
للأمم المتحدة زارت منزل عائلته تسألهم إن كانوا يُوافقون على زيارة ابنهم من
مخيمات اللاجئين، وأن العائلة وافقت على زيارة ابنها الغائب عنها منذ ما يُقارب
الـ 10 سنوات متتالية، وانتهت المكالمة وضع الشاب هاتفه على الطاولة وسرح بعيداً،
مَزجتْ مخيلته بين ذكريات قديمة قوية وعصية على النسيان ويوم اللقاء بعد طول غياب.
بات الشاب ليلته مُشتت الأفكار بين
ذكريات مضت طويلة وقوية بطفولتها ومراهقتها ونضالها وملاحمها السلمية ضد الاحتلال
المغربي وبين محاولاته لتخيل سيناريو اللقاء بعد 10 سنوات من الغياب القسري؛ وبمرور
يومان تقريباً أكمل الشاب الصحراوي كافة الإجراءات المعمول بها والمتبعة لدى
المنظمة الأممية المشرفة على برنامج تبادل الزيارات، وقدمتْ له المنظمة الأممية
مساعدة مالية تقدر بـ 25 دولار تقريباً وحقيبة بلاستيكية صغيرة، وكان يحمل الرقم
الترتيبي ثلاثة (3) للعائلات المستفيدة من الرحلة.
أراد الشاب أن يحمل الكثير من الهدايا
لكن المساعدات الأممية لم تكن كافية بالإضافة إلى أن المنظمة فرضتْ قيوداً على أن
لا تتجاوز أمتعة كل مستفيد من الرحلة الحقيبة التي سلمت له من قبل المنظمة، تحايل
الشاب على هذا القرار وفتح أماكن خياطة الحقيبة المُسلم له من طرف المنظمة ليتسع
الكيس وليصبح أكبر مما كان عليه ليحمل أكثر قدر ممكن من الأمتعة ثم أعاد خياطته من
جديد، ليصبح الكيس أكبر حجماً وليبقى في ذات الوقت الكيس ألأممي نفسه.
في خضم كل هذا وصل الخبر والدة الشاب
أن ابنها الغائب منذ ما يقارب الـ 10 سنوات سوف يعود لخمسة أيام فقط، وانطلقت
والدته من الديار الاسبانية إلى مدينة العيون لتشارك في استقباله، وقد قضت والدته
نصف هذه المدة في إسبانيا لعلاج شقيقته الصغيرة.
وفي صبيحة اليوم الموعود 13 ماي 2011
سمع الشاب صوت سيارة قوي هز كيانه، وبعده بقليل سمع نداءات بصوت مرتفع "سيارة
الأمم المتحدة في انتظارك.. سيارة الأمم المتحدة في انتظارك، هناك خلف
الخيمة"، انتاب الشاب شعور قوي أقوى من كل شيء، حتى أنه لم يعد يشعر بما حوله،
أخذ نفساً عميقاً.. وقال لنفسه "هيا.. هذه اللحظة التي كنت تنتظرها منذ ما
يقارب الـ 10 سنوات، فلماذا تتردد؟".
استجمع قواه وهبّ متوجهاً إلى السيارة
التابعة للأمم المتحدة دون تردد تحت زغاريد ودموع المودعين، صعد السيارة والتفت
إلى مودعيه، لاحظ نظراتهم ودموعهم وملامح وجوههم غير مصدقين أنه سيعود مرة أخرى
ليرى عائلته من جديد، عندها أدرك الشاب أن لكل إنسان لديه من يحبونه دون أن يشعر
بهم، وأنه، نادراً ما تأتي الفرصة لتكشفهم وتعرفهم.
انطلقت السيارات الأممية نحو مطار
تندوف، وعند وصولهم جلس أفراد الرحلة في قاعة الانتظار مرسوم على وجوههم اضطراب
وأصيبوا بحالة من السهو في محاولة منهم لتخيل ما ينتظرهم.. مرت ساعة أو اثنتين من
الانتظار فجأة فُتح باب "الوصول" التفت الجميع فإذا بالعائلات الصحراوية
القادمة من المناطق المحتلة تدخل نفس القاعة، تبادلت العائلات النظرات ولم يدم ذلك
كثيراً حتى انطلقت تحتضن بعضها البعض في جو سادت فيه الأفراح وسالت فيه الدموع دون
استئذان.. ثم نودي على أفراد الرحلة إلى المناطق المحتلة، ووقفوا في صف واحد من أجل
إكمال آخر الترتيبات المتبعة في المطار ولدى المنظمة الأممية، وأثناء مرحلة
التفتيش التي تقوم بها المنظمة سألتْ عجوز تقف وراء الشاب مُباشرة "بُني هل
يمكنك أن تحمل لي هذه الحقيبة الزائدة فربما يمنعوني من حملها؟"، أجابها
الشاب دون تردد "نعم يا والدتي.. يُمكنني أنا أو لا يمكن لأحد غيري"،
وضع الشاب حقيبة العجوز تحت ثيابه التقليدية (الدراعة) وتمكن من تمريرها.
توجه الركاب إلى الطائرة الأممية وصعد
الجميع، توقف الشاب للحظات ونظر خلفه وتساءل في نفسه "هل أنا مستيقظ أم أحلم؟"،
رد على نفسه "مهما يكن حلم أو حقيقة فهذه هي اللحظة التي كنت تنتظرها حتى ولو
في الأحلام".
جلس بالقرب من العجوز صاحبة الحقيبة
في منتصف الصف الأيسر من الطائرة مطل مباشرة على السماء الزرقاء والأرض التي تبدو
من فوق كالخريطة، خيم الصمت والهدوء الثقيل على ركاب الطائرة.
ظل طوال الرحلة ينظر إلى السماء
الزرقاء ويُحاول أن يرسم فوقها سيناريو اللقاء والاستقبال وينظر إلى الأرض من فوق
في أغلب الأحيان لأنه منظر جميل لن يدوم طويلاً بينما يُمكنه النظر دائماً إلى
السماء من تحت.
بعد مرور ساعة ونصف تقريباً حلقت
الطائرة الأممية المتواضعة فوق سماء مدينة العيون، نظر الشاب إلى المدينة وهي تبدو
صغيرة في حجمها لكنها عظيمة عظم الأرض، بدأت الطائرة تنحدر على مدرج مطار العيون
المحتلة، نزل الركاب من الطائرة وتوجهوا إلى قاعة الانتظار بالمطار.. ثمبعد لحظات
قليلة نـُودي على العائلات للتوجه إلى السيارات الأممية بعد تفتيش دقيق وشامل من
قبل سلطات الاحتلال التي تـُسيطر على المطار؛ لم يواجه الشاب مشاكل عديدة مع سلطات
الاحتلال؛ ثم خرج الجميع من المطار ووقف الشاب أمام المطار ليأخذ نفساً عميقاً
ونظر يتأمل المكان والموقف، صعد الزوار اللاجئون السيارات الأممية، وكان الشاب في
السيارة الأمامية، التفت إلى الخلف ليتفقد الآخرين في السيارات الخلفية وفتح نافذة
السيارة في وسط المدينة ورفع شارة النصر في تجاه السيارات الأخرى أمام السلطات
الأممية والمغربية، وما هي إلا لحظات قليلة حتى تجاوب معه الآخرون رافعين شعار
النصر، فتجسدتْ على أرض الواقع كلمات الأغنية التي تقول "يا أهل العيون.. يا
أهالينا..إنا قادمون منتصرين".
وصلت السيارات الأممية إلى منزل العائلة الأولى، حاول الشاب فتح باب السيارة لمساعدة العائلة فوجد نفسه بين أحضان أفراد العائلة المستقبلة في جو مذهل، قال الشاب: "أنا مثل ابنكم فعلاً، لكن من تبحثون عنه بالضبط فذاك هو"، ردت امرأة كبيرة في السن فقالت: "مادمت أنت أيضاً قادماً من الجبهة (أي الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب) فأنت أيضاً ابننا"، انكبت العجوز تحتضن الشاب مثلما احتضنت باقي العائلة، فاضت أعين الشاب دموعاً مما قالته العجوز، وقال لنفسه: "ما هذه إلا البداية".
انطلقت السيارات لتـُوصل العائلات الواحدة تلو الأخرى، وتتنقل من حي إلى حي ويتنقل معها الشاب بذكرياته القديمة، وفي سهوة منه وجد نفسه أمام منزل عائلته في جو أقل ما يُقال عنه أنه كان مثالياً، وجد نفسه أمام جماهير غفيرة من مختلف شرائح المجتمع الصحراوي في استقباله أمام المنزل، قبل أن ينزل من السيارة تدافع الحضور لعناقه بعد سنوات طوال من الغياب، وفي تلك الأثناء لم تكن والدته قد وصلت بعد من الديار الاسبانية.
دخل الخيمة المنصوبة فوق سطح منزل
عائلته ليتفاجأ بفنان مخيم أكديم إزيك "ماء العينين"، هو الذي يُحيي حفل
استقباله مما زاد الحفل حماسة وسخونة، توجه الشاب إلى مصافحة الفنان وجلس في ركن
الخيمة المخصص له تحت زغاريد وترديد شعارات وطنية.. مرت ساعة ونصف تقريباً على
قدومه وفي خضم الأفراح والأغاني الوطنية والشعارات توجه شقيق الشاب فهمس في أذنه، عندها
ارتسمت ملامح لم تـُرسم من قبل على وجهه، ثم وشق صفوف الحاضرين ونزل درجات السلم مُسرعاً،
توقف في منتصف درجات السلم، كان قد أخبره شقيقه همساً أن والدته وصلتْ وهي تصعد
السلم مُتجهة إليك، كانت تصعد السلم بصعوبة جداً.. احتضنت الأم بنها بعد غياب 10
سنوات بقوة كما احتضنها أيضا بقوة وشعر بشعور لم يشعر به من قبل حتى وهو معها.
بقيت المفارقة في ذهن الشاب أنه لم
يكن يظن أنه سوف يعود إلى الوطن بعد طول غياب ويجد نفسه في استقبال والدته وليست هي
التي تستقبله، لم يُحدث ذلك فارقاً فكان الأهم أن يحتضنها بعد كل هذه الغياب مرة
أخرى من جديد.
كان اليوم الأول يوماً حافلاً، تبادل
فيه الأهل والأحباب والأصدقاء التحية والعناق، لم يكد يصل الليل إلا وكان الشاب قد
أصابه الإرهاق كونه أصلاً لم يأتي من المخيمات إلا وهو مُنهكا؛ استمر نفس
السيناريو في اليوم الثاني، حيث توافد الأهل والأصدقاء لإلقاء التحية والسؤال عن
أحوال اللاجئين والأوضاع الإنسانية التي تمر بها المخيمات، ومن يسأل عن أهله وذويه
وإخوته وأصدقائه، ومن يُريد إرسال أغراض لأهله وأقاربه في المخيمات.
في صبيحة اليوم الثالث انطلقت العائلة
بابنها القادم من مخيمات اللاجئين إلى شاطئ "فم الواد" من أجل استغلال
الوقت الثمين الذي لم يتبقى منه إلا ثلاثة أيام فقط.. ظل الشاب يومه كاملاً بين أحضان والدته وإخوته
وبين كثبان الرمال الشاطئية وأمواج البحر العاتية التي تحمل هموم البحر، كان يتأملها
كونه يحمل هما أكبر من كل تلك المهموم التي تحملها الأمواج، هم الفراق ربما بدون
عودة بينما الموج تتراوح بين المد والجزر كل يوم.
وقف الشاب على الشاطئ تضربُ أصابعه
أمواج البحر رافعاً رأسه فوق الأمواج في اتجاه الغرب، الغروب البحري الذي كان يُودعه
بنظرات لم تفهما إلا موجات البحر التي تـُواسيه من حين لآخر عندما تـُلامس تلك
الأمواج أصابع أرجله.
عادت العائلة إلى مدينة العيون بعد
يوم حافل قضته في شاطئ "فم الواد"، وفي صبيحة اليوم الرابع انطلقت
العائلة إلى المكان الذي يحمل في ثناياه ذكريات عميقة وقوية بما فيها ذكريات
الطفولة الخالدة، توجهت العائلة إلى البادية، وبالضبط إلى جزء من منطقة "إزيك"
يبعد حوالي 60 كلم عن العيون؛ كان الجو جميلاً صاحبته زخات طفيفة من المطر، مشى
الشاب تحتها بخطوات بطيئة يمر على الديار القديمة متأملاً من خلالها موقف المكان
وذكريات الزمان التي خاضها في صغره وفي الأيام الأخيرة التي قضاها قبل رحيله قبل 10
سنوات.
حل وقت الغروب، وأخذ الشاب وقتاً مُستقطعاً
لنفسه ليرى وقت الغروب الممزوج بزخات مطر طفيفة متيقناً أنه منظر لن يعود في
القريب العاجل، ثم أسدل الليل ستائره وعادت العائلة إلى مدينة العيون، وعند دخولها
تذكر الشاب بعض الأشخاص الذين لم يرهم ولم يلتقي بهم بعد، خاصة من كبار السن الذين
لم يشئ أن يذهب قبل رؤيتهم ووداعهم على أمل اللقاء إن شاء الله، وعندما دخل على
أول أقاربه من كبار السن وجده مُقعد الفراش لا يتحرك، ودخل على الثاني ووجده لم
يعد يتذكر شيئاً، حتى أنه لم يتمكن من التعرف عليه، وعلى الثالث فوجده مقعداً على
كرسي متحرك لا يستطيع الوقوف، ودخل على التالي فلم يجده ولم يره ولم يشأ أن يسأل
عنه بسرعة، إلى أن اكتشف من نظرات عائلته أن والدهم قد رحل في غيابه.
خرج الشاب من منزل قريبه المُتوفى يُحاور
نفسه قائلا: "الاحتلال ينهش فينا والموت خلفنا والزمن ينهينا، ونحن في شتات
لم يعد محتملاً ولا يطاق"، ثم عاد إلى منزل عائلته وبدأ في حزم أمتعته
استعداداً للرحيل، بحث عن الكيس الأممي رقم 3 ولم يجده وسأل عنه، وقالتْ والدته
أنها وضعتْ فيه بعض الأغراض وأعطته لإحدى العائلات؛ ابتسم وضحك كثيراً، تعجب أفراد
العائلة وقالوا: ما الذي يضحكك؟ أجابهم ذلك الكيس رقمه ثلاثة هو المخصص للذهاب
والإياب وقد أكدت علينا المنظمة أن لا نحمل معنا غيره، لكن لا يهم سوف نعوضه بآخر
وليكن ما يكون.
جهز الشاب أمتعته الخاصة ومع مبالغ
مالية كثيرة وصور وأشرطة الفيديو تخص أشخاصاً في مخيمات اللاجئين تم إرسالها من
طرف عائلاتهم في المناطق المحتلة من الصحراء الغربية، ثم خلد الجميع إلى النوم، لكنه
لم يستطع النوم، حتى حل الصباح، لم يشأ أن ينهض رغم أن الوقت لم يعد بعيداً، كان
ينتظر أن توقظه والدته لسببين هما أنه اشتاق لتلك الأيام التي كانت والدته تجد
صعوبة في إيقاظه، وكونه آخر استيقاظ ستوقظه فيه في الوقت الراهن.. وماهي إلا لحظات
قليلة حتى سمع خطوات تتقدم بصوت خافة يحمل من العطف والحنان ما لم تحمله السماء
والأرض مجتمعتين يُردد "أحمد.. أحمد" لم يشأ أن يُجيب لأنه أراد أن
يسمعه مرة أخرى، ثم ردد الصوت نفسه مرة أخرى "أحمد.. أحمد" أخيراً أجاب وقال:
"نعم أمي".. استيقظ الجميع وبدأ الشاب بتحضر نفسه للرحيل، فإذا بأصوات
بريئة صغيرة تهتف بـ "عمي.. عمي" وأخرى "خالي.. خالي" تفاجأ وذهل
لهذا، ولم يكن يعرف أن أطفالاً صغاراً لم يعش معهم إلا أقل من خمسة أيام ولا
يكادون يعرفونه حتى ويُكنون له كل هذا الحب والمودة، وانتابه شعور لا يُوصف.
سمعوا أصوات السيارات التابعة للأمم المتحدة يتجاوز الجدار ويخترق قلب الشاب مثل الرصاص وليس أي رصاص.. رصاصات الفراق القاتلة نفسها من جديد.. وضع الكيس الجديد في السيارة الأممية، ثم نزل الشاب بخطوات بطيئة إلى الخارج وتبعته العائلة لوداعه، كان تفكيره مُشوشاً ولم يشأ أن يخضع لقوة الفراق لألا تسيء الأمور نظراً للأوضاع الصحية التي تمر بها والدته وشقيقته؛ مما دفعه لتمالك نفسه وحزم أمره ودفن في داخله حزنه وشربت رمال قلبه العطشى دموعه واكتفى بعناق عائلته بقوة، ثم نظر إلى دموعهم وحاول مُواساتهم والشد من حزمهم حيث كان يقول: "لن يطول غيابنا، سوف نعود قريبا رافعين رؤوسنا إن شاء الله".. ثم صعد إلى السيارة الأممية وهو مثقل بالهم والحزن، جلس جامداً بدون حراك بتنفس بطيء جداً واضعاً مرفقه على نافذة السيارة الأمامية ورؤوس أصابعه على رأسه، كان الحزن يُضعفه، يُثقل تنفسه وتفكيره، يُبطئ دقات قلبه... ظهرت سيارة فجأة بأصواتها وزغاريدها بمحاذاة سيارة الأمم المتحدة يصعد منها صوت جبلي يهتف "أحمد.. أحمد" التفت الشاب فإذا هي والدته وإخوته، لوح لهم بيده رافعاً شارة النصر، وعندما توقفت سيارة الأمم المتحدة لتنقل العائلة الثانية نزل الشاب مسرعاً ليُعانق أمه مرة أخرى، وأعلموه أن هناك سيارة أخرى على متنها أفراد من عائلته يبحثون عنه لتوديعه، رافقت سيارة العائلة الشاب حتى آخر عائلة واستودعته الله.
وصلت سيارة الأمم المتحدة إلى مطار
العيون، فنزل الشاب والتفت على صوت سيارة تقف بجانب الرصيف أمام المطار فإذا بها
السيارة التي أخبروه عنها، وكان على متنها أفراد من عائلته بالإضافة إلى والدة
صديقه في المخيمات، توجه إليهم مسرعاً وتبادل العناق والحديث معهم حتى دخل الجميع
إلى المطار وبقي هو وحده في الخارج، قالت له أخته وبمرارة "هيا اذهب فقد
تأخرت كثيراً".. صعد اللاجئون المستفيدون من برنامج تبادل الزيارات الطائرة
الأممية، وفي أثناء الرحلة بدأ الشاب يُعيد سيناريو الرحلة في ذهنه فاكتشف شيئاً
مروعا ندم عليه، ولكن بعد فوات الأوان، اكتشف أنه أضاع فرصة أن يعيش الرحلة بكل
دقيقة وثانية فيها وبكل تفاصيلها وأحداثها كونه شغل عقله وفكره قبل دخول العيون
بمحاولة تخيل ووضع صورة ليوم اللقاء بعد طول غياب، وعندما شغل اليوم الأول فكره
وعقله بتصور وتخيل يوم الرحيل والوداع والفراق من جديد، فوجد نفسه تائهاً بين
ذكريات ماضية مترسخة في الذاكرة ويوميات مبعثرة لزيارة عاش أيامها تحت ضغط الفراق.
مرت ساعة ونصف تقريباً حتى حطت
الطائرة في مطار تندوف، مباشرة بعد وصولهم صعدوا إلى السيارات الأممية لتقلهم إلى
عائلاتهم بمخيمات اللاجئين الصحراويين بعد رحلة حافلة وشاقة دامت 120 ساعة، وجد
الشاب أقاربه في انتظاره لاستقباله من رحلة يصفونها بالطويلة؛ قضى أيامه الخمسة
يستيقظ باكراً ولا ينام إلا متأخراً جداً في محاولة منه لاستغلال كل ساعة ودقيقة
يقضيها في العيون المحتلة، كونه يعرف أنها خمسة أيام فقط ولن تدوم.. استلقى ليستريح
بعد هذه الرحلة الحافلة، فنام لمدة ثلاثة أيام متتالية يأكل ويشرب مستلقياً على
فراشه ويعود إلى النزم.
كانت هذه بعض تفاصيل حلم الشاب الذي
دام 120 ساعة، والذي خاض أحداثه في المناطق المحتلة من الصحراء الغربية ليستيقظ
بعد ذلك في مخيمات اللاجئين الصحراويين ليجد نفسه متعباً مرهقاً منهكاً لينام بعد
ذلك ثلاثة أيام؛ وفي الأسبوع الأول بعد عودته من الزيارة كان يذهب كل ليلة في حلم
إلى مدينة العيون وكان ينتهي كل حلم عند استقاظه باكراً وهو في مخيمات العزة
والكرامة.
صورة لأحمد المهدي رفقة والدته أثناء لقائهما في الزيارة محل القصة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق