في البداية
وقبل أن أكتب فيما فتحتُ من أجله للكتابة، يُسعدني ويُشرفني أن أشجع البَادرة
الطيبة التي اتخـَذتها أسرة المدونة الإلكترونية "التغيير" بفتحها سلسلة
تحت عنوان "إنجازات على طريق التغيير" وفي إطلالتها بشكل عام، والتي أتمنى
من المولى عز وجل أن تستمر في كشف مكامن الخلل في البعض من قياداتنا وإطاراتنا ـ
سامحهم الله ـ لعلهم يعُوها ويَعْدلوا عنها إلى الطريق السوي، وكذلك في إبراز مَجهودات
البعض الآخر في مُحاولة السّيْر وفق مُتطلبات وطموحات شعبنا وقضيته العادلة، كما
أتمنى أن يتجرد مُثقفونا وشبابنا وأسرة "التغيير" وغيرها من المُدونات
والمواقع الإلكترونية المُستقلة ويتحلوا بالموضوعية، مع الإبتعاد عن التشهير
والقدح والسب والشتم وغيره من الصّفات التي لا تمتُّ صلة بالمثقف بشكل عام ولا بأخلاق
أو ثقافة الصحراوي الأصيل بشكل خاص.
انطلاقاً مما
جاء في خطاب شهيد الحرية والكرامة الولي مصطفى السيد أثناء لقائه بالأطر في أبريل
1976، حيث قال رحمه الله وأسكنه فسيح جناته مع الشهداء والصديقين: "نحن
الآن نمُر بفترة انتقالية هي ما بين واقع مُعاناة قوي بالنسبة للإطارات ووجود شعب
ككل يَحْمل عبئاً كبيراً من أعباء الثورة، وإذا كان هذا قد أحدث نوعاً من الركود لدى
الإطارات، إلا أنه سيُشكل في مرحلة لاحقة قفزة نوعية يأخذ فيها الإطار
وضعه الطبيعي كإطار، سواءٌ كانتْ معه قوة تحمل عنه جزءً من الأعباء أو هو الذي يحملها
وحده.. والملاحظ أن ما نتناوله في نقاشاتنا لا يَصل إلى القاعدة بالشكل الذي
كنا ننتظر، كما أن الأفكار ليستْ مُبلورة من القاعدة الشعبية؛ والمؤكد أن هذا الإتكال
سيعْمَلُ على فرز الإطارات، من منهم أصبح يتخذ الصّبْغة الانتهازية ويركب على الجماهير
ويستغل مكاسبها ثم يختبئ وراءها ـ أي أصبحتْ هي تجره خلفها ـ ومن منهم سيبْقى بطبيعة الحال
طلائعي بالفعل بالنسبة للقاعدة الشعبية يُعطي ولا يأخذ، ويَجْدُرُ
بنا أن نتحدث عن الوضع المطلوب
مبدئياً، وقد يتساءل المرء عما هي خصائص الواقع المرفوض.. ونأتي بنقيضها لنـُحدد
ذلك الواقع المطلوب ـ أي نأتي بنقيض الواقع الحالي في الواقع المطلوب
بالنسبة للغد ـ ولكن مع ذلك قد يُثير المرء بعض النقاط في هذا المضمار، والتي من جُملتها أن
الغاية الكبيرة التي نطمحُ إلى الوصُول إليها هي شعبٌ مُنظم، مُلتحم، قادر ومُحترم
في وطنه؛ إن هذه الخصائص يَرتبط الحُصول عليها بالحصول على الوطن، فبدون وجود الوطن فإن
الحديث عن هذه الخصائص غير وارد اللهم إلا بشكل جُزئي".
وانطلاقاً من
المُقدمة التي تـُقدم بها أسرة التغيير لسلسلة "إنجازات على طريق
التغيير"، حيث تقول: "المسئول المُناضل هو من يُجبر الناس بكل أنواعهم
على الرضى عنه والإقتداء به في كثير من التصرفات والسلوكيات إعجاباً واقتداءً
بنجاحه اللافت ونضاله المُستميت من أجل تنفيذ البرامج الوطنية.. إذ أنه من الأسباب
الأساسية للتطور والتقدم والوفاء لعهد الشهداء من المسئولين الذين يقودون دفة
البلد سياسياً، اجتماعياً، ثقافياً، اقتصادياً، مالياً، علمياً، تربوياً، إعلامياً،
صحياً، دينياً ورياضياً... إلخ".
وبعد أن
رأيتُ توافقاً كبيراً بيني وبين "التغيير" حول رُؤى لطالما تكتـَّمْتُ
عليها واكتفيتُ في شأنها بدور المُشاهد فقط، إلى أن أطلتْ أسرة التغيير علينا بسلسلة
"إنجازات على طريق التغيير"، التي بدأتـْها بنساء مُناضلات ـ نتمنى أن
يثبتوا ويُواصلوا إلى غاية بلوغ الهدف المنشود ـ، بغض النظر عن كوني أتحفظ على بعض
مَضمونات المدونة، إلا أن ذلك لا يُفسد للود قضية (فأنا واحد من الناس وإرضاء
الناس غايةٌ لا تـُدرك)، وبغض النظر كذلك عن مَكانات الأخوات التي كتبتْ
"التغيير" عنهن أو رُتـَبهن، إلا أن الأهم من ذلك والذي لا يُمكن لأي
كان أن يُنكره هو إنجازاتهن على الميدان، التي حققنها في وقت عجز فيه بعض
"الرجال" من قادتنا عن تحقيق الجزء اليَسير منها، بالرغم من توفرهم على
الأضعاف المُضاعفة مما تملكنه هؤلاء المُناضلات ـ أقصد الجانب المادي فقط ودون
غيره ـ.
وفي هذا
المقام بحول الله تعالى سوف أحكي انطلاقاً من أشياء وقفتُ عليها ولاحظتـُها بالعين
المجردة "وْمَاه كَوْلَتْ كَالْ"، وليس من أشياء سمعتها أو قرأتـُها،
حتى لا يتهمني المُترصدون ـ وما أكثرهم ـ على أنني صَفاقٌ أو حزارٌ، وحاش لله.
فأسرة
التغيير ذكرتْ على سبيل المثال لا الحصر، كل من الأخوات: خديجة حمدي، فاطمة
المهدي وخيرة بلاهي، وإنجازاتهن في الميدان، لكنها لم تتطرق لأخريات
نظراً إما لأن دورهن في السلسلة لم يحنْ بعد وبالتالي أكون أنا هو المُستعجل
(وأتمنى ذلك)، أو لربما أنها لا تعرفهن ـ مع استبعادي للإحتمال الأخير ـ فاسمحُوا
لي أن أذكر شخصية، وهي للتأكيد امرأة من العيار الثقيل والأرقام الصعبة في كفاح
شعبنا، نسأل الله عز وجل أن يُثبتها على العهد إلى أن تلق المصير الذي لقيته
رفيقاتها اللائي سبقنها إلى الشهادة من أمثال: النعجة عالي، سيد أمي
وكلثوم الونـّات... وغيرهن ممن استرخصن أرواحهن فداءً للوطن.
هذه المرأة،
هي الأم والأخت والقائدة المُناضلة السنية أحمد مرحبة، واسمحُوا لي هنا أن
أسرد عنها ما رأتهُ عيني بخصوصها حتى أقف عند وعدي.
لطالما سمعتُ
وأنا صغير السن، حديث العهد بالنضال بالمرأة من خلال صوت الشعب الصحراوي (الإذاعة
الوطنية)، لم أكن وقتها أعرف منصبها السياسي في الجبهة ولا في الدولة الصحراوية..
ولكن مع توالي السنين وأنا أكبر شيئاً فشيئاً، وككل الصحراويين والنضال يكبُر فينا
شيئاَ فشيئاَ، إلى أن أصْبحنا قادرين على التمييز ووضع الأمور مواضعها ـ أو
بالأحرى حسب ظننا وإدراكنا البسيط ـ.
كبرنا وانقطع
عن مسامعنا تكرار اسم السنية أحمد مرحبة في الإذاعة الوطنية، ونحن في
المناطق المُحتلة من وطننا الحبيب، لكنه انقطاع لم يكن بالدائم، بل إنه لفترات
طويلة، ولربما لم يعد كالسابق بحسب اختلاف المنصب السياسي الذي كانت تشغله المرأة
مع الذي شغلته أيام إحساسنا بأن اسمها أصبح يغيب أو لا ندري.
بغض النظر
عما فات من تاريخ المرأة النضالي الحافل بالإنجازات دون شك، والذي بطبيعة الحال لن
أخوض فيه لأنني قطعتُ العهد على ألا أتكلم إلا فيما رأتهُ عيني المُجردة، وأحمد
الله كذلك أنه لم يأخذ رُوحي حتى رأيتـُها بأم عيني والتقيتـُها شخصياً كما
التقيتُ بالعديد من المُناضلين والمُناضلات غيرها كنتُ فقط أسمعهم أو أسمع عنهم عبْر
الراديُو أو أراهم في قنوات فضائية منهم من قضى نحبهُ ومنهم من ينتظر.
لم ألتق السنية
مُباشرة فقط بل عملتُ معها أيضاً بصفتها ممثل الجبهة في ليبيا وبصفتي أمين رابطة
الطلبة الصحراويين الدارسين بليبيا آنذاك (الموسم الدراسي 2008/ 2009)، بعد أن تم
تعيينها مُمثلة للجبهة في البلد بعد المؤتمر العام الثاني عشر خلفاً للسيد ماء
العينين أتقانة، الذي شغل المنصب لسنوات طويلة.
مُنذ الوهلة
الأولى عملت المرأة على تجميع كل أمناء الفروع الطلابية الصحراوية بمختلف المراكز
والجامعات الليبية بأعضاء تمثيلية الجبهة ووزارة التعليم بليبيا في مقر مكتب
التمثيلية الصحراوية بطرابلس، هذا الأخير الذي كان لا يدخلهُ من الطلبة إلا
المُقربين جداً منه (ولا داعي لمزيد من التوضيح) أو المُحتجين منهم على تأخير أو
قطع منحهم الدراسية أو عدم تسفيرهم في الوقت المُناسب إلى المخيمات لقضاء العطلة
الصيفية مع ذويهم، إلا أن الحال اختلف كليّاً بعدما جاءت السنية أحمد مرحبة،
بالرغم من الصعوبات التي وجدتها أمامها والديون المُتراكمة التي وجدتها من فواتير
الماء والكهرباء والهاتف... إلخ، إضافة إلى واقعها الإجتماعي الصعب آنذاك (والدتها
رحمها الله التي كانت تـُصارع المرض، إبنها الذي يُعاني مع المرض، ومخاض ابنتها) إلا
أن ذلك كله لم يُثنها عن التخلص من كل الأعباء وتجاوزها إلى الأمام ولصالح القضية
والشعب الصحراوييْن.
كما سبقت
الإشارة أول ما عملتْ عليه المرأة هو ذلك التجمع، والذي استخلصتُ منه شخصياً أنه
كان بغرض التعارف وتعميم ـ إن شئت القول ـ نتائج المؤتمر وسيّاسات الظرفية وآخر مُستجدات
القضية الوطنية... إلخ، وخلال اللقاء قدمت المُمثلة الجديدة الطاقم الذي سيشتغل
معها إدارياً وأسْمَتـْهُمْ كل باسمه ومنصبه، هذه المناصب التي قبلها كل واحد منهم
آنذاك إلا واحداً كان ينعم بكل شيء أيام ولد أتقانة، ولمّا تيقن أن الماضي
لن يعود رفض المنصب الجديد وخرج من ليبيا بلا عودة.
قالتْ المرأة
يومها: "أما الحَسّابْ فهو السفير أو الممثل الجديد" ثم أضافتْ مُوجهة
الكلام إلى الأطر الطلابية التي تجاوز عددها في ذلك اللقاء العشرين بين الذكور
والإناث "واعلموا من اليوم فصاعداً أن أبواب مكتب الجبهة الشعبية لتحرير
الساقية الحمراء ووادي الذهب مفتوحة ليلاً ونهاراً وكلنا آذان صاغية لانشغالاتكم
ومشاكلكم على أن تتخذ سلماً إدارياً، فمنكم إلى مندوب وزارة التعليم الذي يلجؤ
بدوره إلينا في أي وقت لطلب المُساعدة، وكيفما كان شكل تلك المُساعدة فنحن لن ندخر
جهداً لتوفيرها، وما عليكم بالمقابل سوى التزام مقاعدكم الدراسية والتفاني والجد
فيها لتحصيل نتائج جيدة تـُشرفون بها ذويكم وقضيتكم".
وللتغلب على
بعض التراكمات المادية التي وجدتها المرأة أمامها، قامتْ ببيْع سيارة فخمة من نوع
"تـُويُوتا دُوبْلي كابينْ" لم يكن قد مضى على اقتنائها سوى مدة قصيرة
جداً، وبالرغم من كونها قامتْ ببيعها بأبخس ممّا اشتـُريّتْ به، إلا أن المرأة لم
تندمْ على ذلك حتى وإن بقيتْ بدون سيارة، لكنها سددتْ بعض الديون، واكتفتْ بمساعدة
أحد الطلبة الجامعيين الذي كان يملك سيارة من نوع "ميرسيدس 190" اشتراها
من تمثيلية الجبهة القديمة بطرابلس، وعلى ذكره فإنه والله ما قصّرَ في تأدية واجب المُساعدة
رغم انشغالات الدراسة؛ بل لن تـُصدقوا أن المرأة كانتْ في عديد المرات تلجأ إلى الإقتراض
من بعض الصحراويين العاملين في ليبيا آنذاك ـ أعرفهم شخصياً ولا داعي لذكر الأسماء
ـ كل هذا لم يكن لإشباع رغبات أو مُتطلبات شخصية للمرأة، بل والله والحق يُقال إنه
لسُرعان ما ظهر كل ذلك على الدار المُخصصة لإقامة المُمثل والمعروفة لدينا كطلبة
وكذلك عند كل الصحراويين الذي يعرفون ليبيا بـ "أدْوَيْرَة"، كيف تحولتْ
مما كانتْ عليه قبل قدوم المرأة إلى ما أصبحتْ عليه بعد تعيينها، ثم الحالة التي
أصبح عليها مكتب الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب بعد مجيئها
إليه، حيث والله إن كنت قد أخذتَ شخصاً كان يعرفه سابقاً وأغمضتَ عينيْه وأدخلته
إليه بعد التغييرات التي أجريتْ عليه فإنه لن يعرف أين هو، بل إنك إن كنت قد أخبرته
أنه في مكتب الجبهة في طرابلس لن يُصدقك.
وقبل أن أصف
لكم بناية تمثيلية الجبهة بطرابلس، لابد أن أشير إلى أنني مكثتُ فيه لمدة 20 يوماً
تقريباً ـ حتى نبق عند وعدنا بالتكلم عما رأتـْه العين المُجردة ـ ولكن حتى لا
يذهب الظن بعيداً بالبعض ويجعله يتساءل من أين لي الحق بالمُكوث كل هذه المُدة دون
أن أصنف نفسي ضمن الذين قلتُ عنهم من المقربين، فإني مكثتـُها مع خمسة من رفاقي
قادمين معي من المناطق المُحتلة والتحقنا جميعاً لاستكمال دراستنا بليبيا، ومع
انتهاء إحدى سنوات دراستنا لجأنا كما هو مُتعارفٌ عليه إدارياً آنذاك إلى مندوب
وزارة التعليم الصحراوي في ليبيا، حيث يقوم كل الطلبة الذين أنهوا امتحاناتهم
وتأكدوا من عدم بقاء أي شيء من المواد يُعيدونها (روتراباج أو الدورة الإستدراكية)
ولما تقدمنا وسجّلنا أنفسنا بطريقة تنظيمية بعد نجاحنا لله الحمد وتم إبلاغنا
بموعد السفر، إلا أن المُفاجأة الكبرى كانتْ في المطار بشطب أسمائنا وأننا لن
نسافر، ولمّا سألنا عن الأسباب لم نجد جواباً مع العلم أن مندوب وزارة التعليم أكد
لنا شخصيّاً أنه قام بتسجيل أسمائنا ضمن القوائم وأبلغ بنا الجهات المسؤولة عن
التسفير التي لم يُفصح عنها، وعليه قمنا بما جرتْ عليه العادة وسبقتْ الإشارة إليه
باللجوء إلى الإعتصام بمقر المكتب ـ طبعاً ذلك كان قبل تولي المرأة المنصب ـ.
لقد كان مكتب
الجبهة بطرابلس عبارة عن شقة صغيرة في الدور الرابع ـ إن لم تخـُني الذاكرة ـ في
عمارة مأهولة بالسكان، قبل أن تدخل باب العمارة يستوقفك العلم الصحراوي في منظر
يُرثى له، أمّا عندما تصعد وتلف بك السلالم حتى تصل إلى بوابة التمثيلية التي يدلك
عليها اسمها الذي كتب على الحائط بجنب الباب، ولما تدخل تجد عن يمينك بعد المدخل
مُباشرة حمام ـ لم نكن نعلم أنه حمام إلا بعد أن تم فتحه وترميمه في فترة السنية
ـ يليه بيتٌ صغير يتناثر فيه ما تم جمعه من قمامة وملابس مُتسخة تعني رواد المكتب
والقاطنين به، يُقابله مطبخٌ صغير مكتظ بالأواني البدائية المُسودة بفعل سنوات
الطهي تقف بجانبه ثلاجة من الطراز القديم "حرّة" (بلهجتنا الحسانية)،
ويلي ذلك بيتٌ آخر صغير يفصله عن المطبخ جدارٌ من خشب "كونتر بلاكي" فيه
فراش على غرار باقي البيوت الصحراوية التقليدية المُتواضعة وطاولة وُضع عليها جهاز
كمبويتر وطابعة من الطراز القديم عُلقتْ خلفها خارطة للصحراء الغربية بحجم كبير،
يلي ذلك بيتٌ آخر صغير لم نر قطّ ما بداخله، إلا أننا نعلم جيداً أن حبّات الشاي
"الوركّة" تـُوجد من ضمن ما يُغلق عليه فيه، وقد علمنا ذلك من خلال المدة
التي قضيناها في المكتب، حيث عندما كانتْ تنتهي حبّات الشاي ونطلبها لهم يقومون
بإخراجها لنا من ذلك البيت، مع عدم نكران أن المُمثل آنذاك السيد ماء العينين
أتقانة قد مدنا طيلة فترة إقامتنا بمبلغ مالي ـ لم أعد أتذكر كم قدره ـ وذلك
لتسيير أمورنا بالإضافة إلى أنه عزمنا يوماً للغذاء عنده مع عائلته في "الدْوَيْرَة"؛
أما البيت الآخر الذي يلي "بيت الوركّة" فهو المكتب الذي يحوي كل ما
يتعلق بالتمثيلية وفيه جهاز كومبيوتر واحد وهاتف ثابت وبعض من أمور السياسة، يلي
ذلك بيت أجْمَاعَ به فتحة مُطلة على الشارع "بَالاكون" ويحوي أواني
الشاي "الطبلة وريزيسْطونسْ"، جهاز تلفاز هو الآخر من الطراز القديم لا
تكاد ترى الصورة فيه من شدة القدم، وسجّاد للصلاة يُرافقه على الدوام حجر للتيمم
"تـَيَمُّومْ"، وكل ذلك يُوجد أيضاً فوق فراش صحراوي بسيط جداً ومتواضع
جداً، ثم يلي ذلك الحمام الذي لا تستطيع النوم مع صوت تقاطر المياه من أنابيبه
البالية... إلخ.
لقد كانت هذه
صورة لمكتب تمثيلية الجبهة بطرابلس قبل تعيين السنية أحمد مرحبة؛ أما
الصورة التي أصبح عليها بعد ذلك فإنه والله وليس مُجاملة قد أصبح مَفخرة ويُمكنك
أن تنعته بتمثيلية أو حتى سفارة إن شئت، لقد تغير شكله بالكامل، تم ترميمه رغم شح
الإمكانياتْ وأصبح الحمام حماماً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، والبيت الصغير الذي
كان يحوي القمامة وما كدس من ملابس تنتظر غسلها تحول إلى مطبخ فخم بكل تجهيزاته
العصرية الحديثة التي تتماشى مع تجهيزات مطبخ سفارة وليس مطبخ منزل عائلي، أما
البيت الذي كان يتقاسم مساحته مع المطبخ القديم فقد تحول إلى بهو "صالة"
كبيرة للإجتماعات وُضعتْ بها على طولها ثلاث طاولات زجاجية للزينة، كما أفرشتْ
فراشاً عصرياً "الفوتايْ"، أما بيتُ الوَرْكّة فقد اتخذتْ منه المرأة (السنية)
بيتاً خاصاً لها، والبيت الذي كان يضم المسائل السياسية فقد تحول إلى مكتب بكل
المقاييس، مزود بثلاث أجهزة كمبويتر من النوع الحديث بشاشات مُسطحة
"بلازما" واحد خاص بالممثلة، والإثنين الآخرين بالمساعدين مع خط أنترنت
بجودة عالية، وبيت أجْمَاعَ هو الآخر تحول إلى بيت فخم بفراشه
"الفوتايْ" وطاولتين زجاجيتيْن في وسطه، وجهاز تلفزيون
"بلازما" من الحجم الكبير، أما التجهيزات التي كانت سابقاً فقد تم
الإستغناء عنها بالكامل وبدون استثناء واستـُبدلتْ بأخرى حديثة، طبعاً كل هذا تم
بعد أن خضع المقر إلى ترميم كامل، دون أن ننسى استبدال العلم الوطني وإلصاق صور
جديدة عند المدخل لشهيد الحرية والكرامة الولي مصطفى السيد وكذا خريطة تـُبين
الموقع الجغرافي للوطن، ناهيك عن الرائحة العطرة التي تـُلطف الجو وتـُنعشك بمجرد
الدخول.
أما عن الدار
التي كانتْ مُخصصة لإيواء المرضى الصحراويين الذين كانوا يتلقون العلاج في ليبيا،
والتي تـُعرف بـ"جَنزورْ" نسبة إلى الحي الذي تـُوجد فيه، فهي عبارة عن
شقتين مُتقابلتيْن في الدرج الخامس أو السادس من عمارة هي الأخرى مأهولة بالسكان،
فإن المرأة كانتْ دائماً تسأل عنها وعن حالها للإحاطة بها علماً وبمن يرتادها، وفي
بعض الأحيان تقدم زيارات لها، ولم تكن المرأة تـُحبذ إقامة الطلبة أو ترددهم على
تلك الدار لكونهم لا تربطهم بها علاقة ولأنهم كذلك يقطنون في إقاماتهم في مراكزهم
وجامعاتهم.
بقيت المرأة
على هذا الحال لبعض الوقت إلى أن ارتكب اثنين من العمال واحد صحراوي والآخر من
أصول صحراوية (وعندما نقول العمال الصحراويين فنعني أنهم شباباً إما أتموا دراستهم
بليبيا ووجدوا لأنفسهم عملاً أو ممن أتوا للبحث عنه ووجدوه، بمعنى أنهم عمالٌ
مُستقلين) خطأ كبيراً، حيث قاموا ببيع الدار بطريقة غير شرعية لمُشتر ليبي على
أساس أنهما المُخوليْن بالتصرف فيها، ولمّا وصلت الأنباء مسمع المرأة ـ طبعاً بعد
أن فر أحد البائعين ببعض المبلغ الذي تم الاتفاق عليه ـ تدخلتْ بحزم وكأنها كانتْ
تنتظر أول خطأ فما بالك بخطأ كهذا، وأعطتْ إنذاراً لجميع من بالدار بأن يبحثوا لهم
عن مسكن آخر وأن يتركوا الشقتيْن للغرض الذي من أجله اسْتـُلمتْ للوهلة الأولى من
السلطات الليبية، وبعد مدة لم تكن بالطويلة تم الإفراغ ليُعاد الترميم بشكل كامل
على غرار مقر التمثيلية وبنفس المُواصفات تقريباً.
كل ذلك كان
في ظرف قيّاسي جداً، بل الأكثر من ذلك فقد اقتطعت المرأة من ميزانية التمثيلية
مبلغاً شهرياً لدعم صندوق رابطة الطلبة الصحراويين في ليبيا خـُصص لإصدار مجلة
شهرية تحت اسم "الرابطة" تـُعنى بإبداعات وأنشطة الطلبة من مختلف
المراكز والجامعات في ليبيا بالإضافة إلى أهم الأخبار والمُستجدات حول القضية
الوطنية... إلخ، إضافة كذلك إلى حرصها على تكرار الإجتماعات بشكل دائم بأمناء
الفروع الطلابية إما في "أدْوَيْرة" أو في مقر التمثيلية، ثم عملتْ على
إنهاء ذلك التسيب الذي لطالما كانتْ تشهده الرحلات الجوية الخاصة بنقل الطلبة من
وإلى المُخيمات، وكذلك عملتْ وفي وقت وجيز جداً على جلب ثلاث سيارات لطاقم
التمثيلية اثنتيْن مُستعملات من المُخيمات واحدة منهما مُخصصة لمندوب وزارة
التعليم الصحراوية بليبيا والأخرى لنائب المُمثل، أما السيارة الثالثة فقد تم
شراؤها جديدة "بعداد مُصَفر" من ليبيا خاصة بالمكتب، وَيَذكرُ الجميع
أنه تم إهداؤها من طرف من كانوا يُعرفون بـ"اللجان الثورية الليبية"
الذين اشترطوا أن يُعطوها لمكتب الجبهة شريطة أن تبق باسم تلك اللجان، الشيء الذي
رفضته المرأة قائلة "إما تـُسلم للمكتب الصحراوي باسمه وإما فلا"،
وهو ما كان بالفعل فقد سُلمتْ باسم المكتب الصحراوي، ناهيك عن الإنجاز الكبير سيّاسياً،
ألا وهو لقاؤها بالعقيد معمر القذافي شخصياً في ظرف قصير جداً من توليها
المنصب (وصفتُ اللقاء بالإنجاز الكبير سيّاسياً، لأنه لم يكن أحد آنذاك يلتق
الزعيم ومهما كان ومن أين كان إلا واعتـُبر ذلك إنجازاً، فما بالك بامرأة صحراوية
لم يمض على توليها المنصب إلا فترة وجيزة جداً، خاصة في ظل العلاقات السياسية
الليبية ـ الصحراوية وما طرأ عليها من تحول منذ 1984).
إضافة إلى كل
ذلك وغيره ممّا لم يُذكر، سوف أتطرقُ إلى الإنجاز العظيم للمرأة الذي يربطها بصفة
تامة بمقطع خطاب شهيد الحرية والكرامة للأطر الذي بدأنا به الموضوع، والذي يؤكد
بما لا يدعُ مَجالاً للشك أنها إطارٌ بكل ما تحملهُ الكلمة من معنى، حيثُ أنها
برهنتْ بهذا الإنجاز على أنها "ستبْقى بطبيعة الحال
طلائعية بالفعل بالنسبة للقاعدة الشعبية تُعطي ولا تأخذ" إن شاء الله
تعالى، وهنا فإني جد متأكد من كون العديد من القراء سوف يتساءل لماذا أعْطيْتُ
المرأة هذا المقدار؟ بل ومن أنا حتى أعطيها ذلك؟ ولكني في المُقابل مُرتاحٌ جداً
لكوني كنتُ وقت هذا الإنجاز في المُخيمات أتقاسم مع أمهات وذوي الطلبة الصحراويين
ذكوراً وإناثاً في ليبيا هُموم فلذات أكبادهم الذين تفجرتْ ثورة ليبيا أو حرب
ليبيا ـ سمها ما شئت ـ على رؤوسهم، وانقطعتْ عنا أخبارهم، ونحن الذين كنا نـُتابع
المشهد المُخيف والدمار المُريع الذي حل بالبلد في الفضائيات ومختلف وسائل الإعلام
العالمية، بل الأكثر من ذلك هو خشيتنا يومها على أبنائنا وبناتنا من غضب
"الثوار"، خاصة في زخم حرب الدعاية الإعلامية المخزنية المغربية التي
لطالما أرادتْ تشويه سُمعتنا كشعب وسُمعة قضيتنا بافترائها الأكاذيب، حيث نعتـَتـْنا
بـ"المرتزقة الذين نـُقاتل إلى جانب كتائب القذافي"، وما إلى ذلك من
المخاوف، التي لم نرتح منها إلا بفضل الله ثم عظمة إنجاز السنية، دون أن ننس الدور
الكبير الذي لعبه بلد المليون والنصف مليون من الشهداء الجزائر مكة الثوار وقبلة
الأحرار، حيث تم إخراج جميع طلبتنا إلى بَرّ الأمان من أتون حرب لا زالتْ إلى حد
اللحظة تفتك بالبشر والله وحدهُ يعلم إلى متى ستبقى، مع مُتمنيّاتنا للشعب الليبي
الشقيق بالإستقرار وتشييد دولته التي يُريدها والتي ضحى من أجلها بالغالي والنفيس.
إذن الآن
أعتقد أنني قد أكون قدّمتُ المبرر الذي أدى بي إلى إعطاء الوصف للمرأة، لأنتقل إلى
سرد تفاصيل ذلك الإنجاز، لكن قبل ذلك أود أن أذكر بأنني لم أشاهدهُ بالعين
المُجردة، لأنني خرجْتُ من ليبيا قبل وقوعه (في ماي 2010)، ولكن بشهادة ثلاثة من
رفاقي الذين ذهبوا معي للدراسة في ليبيا بعد التحاقنا بالمخيمات، أثق فيهم كعينيّ،
وكذلك بشهادة جميع الطلبة والطالبات الذين شهدوا الحدث بعد أن ظنوا أن النهاية
ستكون في ليبيا لهول ما رأوه بأم أعينهم، وقد التقيْتُ بالعديد منهم.
عندما
اندلعتْ الثورة أو الحرب في ليبيا، ولما وصلتْ إلى مدينة مصراتة (مقر أكبر تجمع
لطلبتنا الجامعيين ذكوراً وإناثاً) عمّت الفوضى، وسُرعان ما انتقل الحال ليعم جميع
أرجاء ليبيا، بما فيها طبعاً مدن الخـُمْسْ، طرابلس، الزهراء، الزاوية، ترهونة
وقصرْ بن غشيرْ، وكلها مدنٌ كانت تحتضن طلبة وطالبات صحراويات بعدد كبير (باستثناء
الخـُمْسْ التي كان بها العدد الأقل، 3 ذكور و2 إناث)، لم يستطعْ أحدٌ حينها
التحرك فما بالك بمحاولة مُغادرة البلد بسبب الوضع، لكن السنية أحمد مرحبة
ظلتْ دائماً على اتصال بالطلبة عن طريق مسؤولي فـُروعهم، إلى أن تمكنتْ من تجميعهم
بواسطة حافلات وهي في مقدمتهم بسيّارتها ـ طبعاً يقود بها الطالب الذي تم ذكره
آنفاً ـ لتتمكن في الأخير من إخراجهم إلى بَرّ الأمان على دُفعتين، الأولى عبر
طائرة مدنية من مطار طرابلس بالتنسيق مع القنصلية الجزائرية، والتي تم تسفير بعض
الجامعيات من طرابلس على متنها، والدفعة الثانية الكبيرة الشاملة عبر باخرة
جزائرية خـُصصتْ لإجلاء الرعايا الجزائريين، ودائماً بالتنسيق مع السلطات
الجزائرية جزاها الله عنا خير الجزاء، ولم يبق إلا ثلاث شبان صحراويين كانوا
يعملون على أنفسهم، وحتى هم لم تنسهم المرأة فقد اتصلتْ بهم لتحاول إقناعهم
بالرحيل إلا أنهم أبوا، لكنهم شكروها على صنعها وأكدوا لها بأنهم يتحملون مسؤولية
أنفسهم.
وفي الأخير
وصل الجميع إلى المُخيمات وضموا الأحضان طلبة وعُمالاً بذويهم وعائلاتهم، ولله
الحمد.
ـ ملاحظة: قبل أن أنس
وحتى أقطع الشك باليقين لبعض من ستسول له نفسه ويقول بأنني كتبتُ عن المرأة لرابطة
كيفما كان نوعها ـ مع أنني أؤكد على أولئك الذي تهمهم الرابطة التي وصفها شهيد
الحرية والكرامة بـ "أخـْوَيْمةْ العار" ـ فليطمئن الجميع بأنه لاتربطني
أي علاقة مهما كان نوعها بالمرأة باستثناء الرابطة التي تجمعنا جميعاً، ألا وهي
القضية الوطنية؛ بل إنني والله إلى حد اللحظة لا أعرف لا بأي الولايات تقطن، ولا
اسم قبيلتها، والله على ما أقول شهيد، وما كتبته لا يعدو كونه شهادة بسيطة للتاريخ
في حق إطار من إطاراتنا الوطنيين الذين قدموا وفي الأخير لا نعلم عنهم شيئاً.
إننا كجزء من
العامة لا نـُنكر لأي كان صنيعاً فيه خيرٌ لقضيتنا وشعبنا، وسواءٌ ممن أتى ذلك
الصنيع، من قيادي، إطار، عامي، ذكر أو أنثى.. فحتى إن لم تعترف لك البشرية فتأكد
بأنه طبعها، ولكن في المُقابل تذكر أن التاريخ لا يستطيع أحد طمسه مهما فعل، فإنه
سيبقى راسخاً تتداوله الأجيال بعدك، وتذكرك به.. واعلم أنك لابد عن هذه الدنيا أنت
راحلٌ لا محالة، إذن حاول قبل رحيلك أن تدخر شيئاً لنفسك تجده أمامك في أيدي لا
تـُضيع أجر من أحسن عملاً.
أيها المسؤول
القيادي، يا من سلمناك أمرنا وقضيتنا راع الله واعلم أنك غداً بين يديْه ستـُسأل
عن الرعية.
وأخيراً
وليْس آخراً، نسأل الله عز وجل أن يُثبتنا جميعاً على عهد الشهداء البررة الذين
سقوا بدمائهم الطاهرة أرض الساقية الحمراء ووادي الذهب، من أجل شيء واحد فقط هو
الكرامة والإستقلال التام.
بقلم: محمد
هلاب
في: 09
أغسطس 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق