إن ما يتخبط فيه المغرب حالياً من مشاكل على جميع الأصعدة، وخاصة السياسية منها وبالأخص المجال الحقوقي، جعلته في وضع حرج للغاية أمام العالم الذي أصبح قرية واحدة، وفي زمن لم يعد الترهيب ولا التعتيم ولا التستر يُجدي نفعاً؛ فجميلٌ جداً ورائعٌ للغاية ما أعلنه الملك الشاب "محمد السادس" في خطابه الذي ألقاه بتاريخ 30 يونيو بمناسبة الذكرى الثانية لاعتلائه عرش المغرب، حيث دعا إلى إقامة دولة الحق والقانون، دولة ديمقراطية حديثة تقوم على الحريات العامة وحقوق الإنسان ... وجميل كذلك اعترافه بفشل والده الراحل "الحسن الثاني" في المجال الحقوقي، وجميل وصفه لعهده "بسنوات الجمر والرصاص".. كل هذا وذاك جميل، ولكن كان الأجمل حقاً لو أن الملك الشاب الطموح غيّر فعلاً المغرب من "المغرب القديم" إلى "مغرب جديد" فعلاً يقوم على كل ما دعا له في ذلك الخطاب.
- "حرفة بوك لا يغلبوك"..
فمنذ اعتلائه العرش سنة 1999 رحّب الشعب المغربي عامّة بالعهد الجديد، وخاصة بعد سماع الخطابات والدعايات الرنانة الجديدة، فرحت الصحافة الحرة المستقلة التي عانت زمن الملك الراحل، فرحت المعارضة، وفرح الشعب الصحراوي الذي ظن أن عصر الإحتلال والتعنت قد ولى إلى الأبد ودُفن مع "الحسن الثاني"، وفرح فرحاً شديداً لظنه أن الفرج قد حان، لأنه قد أتى الملك الذي لطالما شـُوهد حزيناً ولم تعلوا وجهه ابتسامة قط عندما كان يجلس إلى جانب والده عند إلقائه خطاباته، حيث كان يعتقد الجميع وخاصة الشعب الصحراوي والشعب المغربي المسكين أن حُزن ولي العهد آنذاك ناتجٌ عن عدم رضاه باحتلال والده للصحراء الغربية، وعن عدم رضاه بالقمع والتنكيل والتعتيم ومُصادرة الحُريات إلى غير ذلك من الجرائم التي كان يرتكبها الملك الراحل؛ إلا أن المفاجأة الكبرى كانت أن الملك الجديد سُرعان ما تبين أنه كان خلفاً أميناً لسلفه، وأنه سُرعان ما طبّق المثل الحساني القائل: << حرفة بوك لا يغلبُوك >>.
فبسرعة البرق كشـّر الملك الجديد عن أنيابه وأظهر قدرة فائقة في منافسة الوالد، بل إن الدّرب هذه المرة في العهد الجديد أخطر وأشد، لأنه يتستر ويدفن رأسه كالنعامة باسم القانون - وأي قانون؟؟!!- فبدل الاختطاف والاعتقال دُون محاكمات، والاغتيال من خلف الستار... أصبح كل ذلك الآن في زمن الملك "محمد السادس" مُشرّعاً، بل ومحْمياً من طرف ما يُدعى أنه قانـُـــون، - وأي قانون؟؟!!-.
فمنذ أن جلس على كرسي العرش، أول ما بدأ به الملك وجرّب فيه "ديمقراطيته" التي زعم، وأول ما استعرض فيه قواه وعضلاته هو الصحراء الغربية، وذلك بعد اعتلائه العرش بشهرين فقط، وقبل أن يعزل وزير داخلية والده "إدريس البصري" عندما أمره بقمع انتفاضة العيون المجيدة 1999، هذه الإنتفاضة الباسلة التي وجدها الملك سبباً ومناسبة كان ينتظرها بفارغ الصبر ليعزل من خلالها "البصري"؛ هذا الأخير الذي وبأمر مباشر من "محمد السادس" قمع وضرب وعذب واعتقل وشرد ونال من مختلف شرائح المجتمع الصحراوي في المناطق المحتلة وجنوب المغرب وفي المواقع الجامعية المغربية من طلبة، معطلين، حملة الدبلومات والشهادات العليا، تلاميذ، معاقين، أطفال، شيوخ، نساء ورجال ... ليقف الملك بعد أن فضح أمره وبعد أن استعصى عليه قمع وثني الشعب الصحراوي المنتفض عن مطالبه المشروعة المتمثلة في تقرير المصير والحرية والاستقلال التام، وبعد سماعه ربما (أي الملك) لواحد من شعارات الانتفاضة آنذاك القائل: << لا إله إلا الله.. البصري عدو الله >>.
ولتضليل الرأي العام والكذب على العالم أجمع والصحراويين المنتفضين قام الملك بتحقيق أمنيته وأخذ الثأر من غريمه المسكين "إدريس البصري" بدعوى أنه حقق للصحراويين ما يُريدونه، لكن في الحقيقة عزل "البصري" لم يكن مطلب الصحراويين لأن عزله أو تركه لا يعنيهم في شيء بتاتاً، فـ "البصري" من المغرب وإلى المغرب، ولا علاقة للمغرب لا بالصحراء ولا بالصحراويين؛ والأخطر من ذلك وبهذا الحكم أرجع الملك "محمد السادس" القضية الصحراوية أكثر من عشرين سنة إلى الوراء، لأن "إدريس البصري" كان آنذاك المُكلف بملف الصحراء الغربية، وبهذا الحُكم المقصود أبان الملك الشاب على خلاف ما كان متوقعاً منه عن نيته في عدم تسليم الحق لأصحابه، وظهر جليّاً أن حُزنه الدائم في عهد والده ما هو إلا حُزن بسبب انصياع والده وسعيه التارة تلو الأخرى لحل نزاع الصحراء الغربية.
- العهد الجديد والحريات..
وعلى إثر هذه الخلفيات جاءت الجمْعيات الحقوقية المغربية والصحافة لتمارس مهنتها، إلا أنها للأسف وجدت أمامها ما لم تكن تتوقعه من العهد الجديد الذي وعد بالديمقراطية والحرية، فاعتـُقل الصحفيون، وصُودرت الآراء، ومُنع العديد من الصحف والمقالات من الصدور، وحُظرت المُذكرات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: المذكرة التي كتبها الأستاذ "عبد السلام ياسين" زعيم "حركة العدل والإحسان" بالمغرب المعنونة بـ "مذكرة إلى من يهمه الأمر"، كما حُظرت مذكرات "مليكة أوفقير" والتي تحمل عنوان "حيوات مسلوبة: عشرون عاماً في سجن بالصحراء"، هذه المُذكرات التي كانت ضمن أعلى الكتب رواجاً في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تصف فيها الكاتبة كيف سُجنت عائلتها كلها لما يقارب العقدين من الزمن للإنتقام منها بسبب محاولة انقلاب قام بها والدها "محمد أوفقير"، الذي كان وزيراً للداخلية عام 1972.
كما منع نظام "محمد السادس" صُحف "لوجورنال" الصادرة بالفرنسية، و"الصحيفة"، وصحيفة "دومان"، وغيرها من الصحف المغربية التي أرادت الكتابة والخوض في حقيقة النظام المغربي وحقوق الإنسان به، ولما عادت جريدة "لوجورنال" إلى الصدور تحت اسمها الجديد المختلف قليلا "لوجورنال إيبدو" حُكم على مدير نشرها السيد "بوبكر الجامعي" بالسجن ثلاثة أشهر، وعلى مديرها العام السيد "علي عمار" بالسجن شهرين وبغرامة مالية كبيرة لكل منهما، وجاء الحُكم بناءً على دعوى التشهير التي رفعها وزير الخارجية المغربي "محمد بنعيسى" بسبب مقالات نـُشرت سنة 2000 تتهمه بتبديد الأموال العامة في صفقات عقارية خلال توليه منصب سفيراً للمغرب بالولايات المتحدة الأمريكية، وحُكم على السيد "علي لمرابط" مُحرر مجلة "دومان" بالسجن أربعة أشهر وبغرامة مالية بتهمة أنه نشر مقالا في "الصحيفة" حول احتمال بيع أحد القصور الملكية؛ كما مُنع كذلك (أي علي لمرابط) من مزاولة العمل الصحفي عشر سنوات وفرضت عليه غرامة مالية كبيرة ونفي إلى الخارج، بعد أن أدانته الحكومة المغربية بمخالفة قانون العقوبات وقانون الصحافة، والحقيقة أن القضية ترجع إلى التقرير الذي كتبه بعد الزيارة التي قام بها في 2004 إلى مخيمات اللاجئين الصحراويين، التقرير الذي أفاد فيه بأن الصحراويين المُقيمين في اللجوء هم لاجئون وليسوا مُحتجزين كما تدّعي حكومة الرباط، الشيء الذي لم يرق للنظام المغربي مما أدى إلى الحكم عليه هكذا ظلماً وعدواناً.
- "عولمة" المعتقلات السرية..
والأكثر من هذا والأخطر والذي لا يتماشى إطلاقاً مع ما دعا إليه ملك المغرب الشاب من ديمقراطية وحقوق للإنسان، هو أن المغرب الآن يحتوي على مراكز اعتقال سرية تحت تصرف "سي أي إيه"، وهذا ما كشف عنه العديد ممن اعتقلوا في هذه المخافر وخاصة بعد أحداث الـ11 من سبتمبر2001، كما صرحوا بأنهم استنطقوا على أيادي مُحققين مغاربة، ومن بين هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر الإثيوبي "بنيام محمد الحبشي" الذي قال أنه نـُقل جوا إلى المغرب من طرف المسؤولين الأمريكيين في يونيو 2002، كما قال بأنه اعتقل في المغرب لمدة ثمانية عشر شهراً بمعزل عن العالم الخارجي، وتعرّض للتعذيب من طرف محققين مغاربة بأمر من السلطات الأمريكية؛ وحالة المواطن الألماني "محمد حيضر زمّار" الذي صرّح على لسان صحيفة ألمانية أنه تعرض للتعذيب بالمغرب على يد مغاربة وأمريكيين؛ كما أكدت العديد من المصادر أن أكثر من 18 مغربياً من بين معتقلي "غوانتانامو" ومن ضمنهم "عبد الله تابرك" الحارس الشخصي لـ "أسامة بن لادن" استنطقوا من طرف محققين مغاربة.
- "إن الملوك إذا...."
كل هذا وغيره كثير وكثير جدا لم يذكر تعجز الألسن عن حصره يدل على أنه لاشيء تغير في المغرب، اللهم أنه قد رحل ملك وخلفه ملك، و"الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها..." وهذا فعلا ما وقع ويقع في المغرب، وهذا ما دفع بالسيدة "نادية ياسين" ابنة الشيخ "عبد السلام ياسين" زعيم جماعة العدل والإحسان إلى القول: << بأن الملكية غير شرعية >>، ولتطالب بأن يُصبح المغرب جمهورية بأحزاب حرة متنافسة بدون ملك.
وما تعيشه المناطق المحتلة من الصحراء الغربية ومناطق جنوب المغرب منذ اندلاع انتفاضة الاستقلال بتاريخ 21 مايو 2005 إلى حد الساعة، بل إلى أن تنال هذه الإنتفاضة الشعبية العارمة الهدف الذي من أجله سميت، ألا وهو الإستقلال، والذي أصبح قاب قوسين أو أدنى، ولم يكن اختيار أبطال هذه الإنتفاضة لهذا الإسم عبثاً، بل هو آخر اسم لانتفاضة يخوضها الشعب الصحراوي قبيل الاستقلال، وهي من خلال الاسم، الإنتفاضة الفيصل بين الباطل والحق وبين ظلمات الإحتلال ونور الإستقلال، وذلك يتضح ويتبيّن جلياً إذا ما وقفنا قليلاً وبتمعن عند المكاسب التي حققتها الانتفاضة في ظرف وجيز لايتعدى 16 شهراً تقريباً، هذه الانتفاضة التي زادت من شدة ارتباك المُحتل المغربي وجرّت ذيول هزائمه إلى داخل ترابه من خلال نضالات الطلبة الجامعيين الصحراويين، وهزيمته على المستوى الدولي عموماً، وخاصة في مجال حقوق الإنسان.
- انتفاضة الاستقلال..
وفندت انتفاضة الاستقلال كل الأطروحات التي طالما تشدق بها النظام المغربي وكذب بها على العالم؛ وإلى زمن قريب جداً قبل اندلاع الانتفاضة لم تكن أغلب دول العالم تـُحرك ساكناً حُيال الوضع في الصحراء الغربية، اللهم إذا استثنينا الدول الصديقة والمتعاطفة مع القضية الصحراوية، ومع حلول الـ 21 من مايو 2005 تبين للعالم أجمع سواءٌ منه المُتعاطف مع القضية الصحراوية أو الذي منه مع الأطروحات المغربية، تبين للكل وبفضل انتفاضة الاستقلال الباسلة أن كل ما كان يزعمه المغرب ويدّعيه ويتشدق به ما هو إلا كذبٌ في كذب، وما هي إلا أوهامٌ وأحلامٌ زائلة لا محال كما كانت أحلامه في عهد ملكه الراحل "الحسن الثاني"، حيث كان يحلم بأنه سيحكم مغرباً حدوده شمالاً من طنجة إلى نهر السينغال جنوباً، الشيء ما فنده جيش التحرير الشعبي الصحراوي البطل أثناء حرب الصحراء الغربية من 1975 إلى 1991، عندما أجبر النظام المغربي آنذاك على التسليم للأمر الواقع والإستيقاظ من الأحلام، وهذا ما تسيرُ عليه حاليّاً انتفاضة الاستقلال التي برهنت للعالم أجمع أن الشعب الصحراوي انتقل فعلاً بأسلوب حضاري من "المقاومة المسلحة" إلى "المجتمع المقاوم"، وهذه النقلة والقفزة النوعية هي ما زادت من جنون النظام الملكي المغربي بعد أن يئس من محاولة إجهاض الإنتفاضة وقمعها، حيث أنه يُحاول جاهداً وبكل ما أوتي من قوة أن يًحولها من السلمية إلى العنيفة، الشيء الذي لم يفلح إلى حد الساعة في تحقيقه، وذلك بفضل إصرار أبطال الإنتفاضة على مواصلتها انتفاضة حضارية ومواصلة أمجادها وكل حيثياتها سلمياً رغم ما يُلاقونه وبشكل يومي على أيادي الجلادين المحتلين من تنكيل وتعذيب نفسي وجسدي وقمع وتشريد واعتقال... إلا أنهم يظلون دائماً مُتفوقين في تحديهم السلمي البُطولي غير آبهين بما يلاقونه من طرف الجلادين، فأصبح علم "الجمهورية الصحراوية" مرفوعاً خفاقاً وبشكل دائم ليلاً نهاراً جهاراً على كل شبر من أرضنا الطاهرة، ويأبى أبطال الإنتفاضة أن يسقط العلم الصحراوي ويستميتون في الدفاع عن بقائه مرتفعاً خفاقاً عالياً رغم أنف المُحْتلين، وهو ما سقط من أجله في ريعان شبابه "حمدي لمباركي" في 30 من أكتوبر 2005 شهيداً على نهج الشهيد "الولي مصطفى السيد" شهيد الحرية والكرامة وكل شهداء القضية الوطنية الذين عبّدُوا بدمائهم الزكية طريق الحرية والاستقلال؛ وعلى نفس النهج سقط الشهيد "لخليفي أبا الشيخ"، وعلى نفس النهج وإيماناً منه بالمقولة الثورية التاريخية للمناضل "أرنستو تشي جيفارا" التي تقول: << هذا الطريق مظلم وحالك.. فإذا لم تحترق أنت ولم أحترق أنا فمن سينير الطريق؟ >> هكذا أنار الرفيق الشاب "السالك السعيدي" الطريق ونذر جسمه شمعة يُنيرُ بها طريق ودرب انتفاضة الإستقلال، وعلى نفس النهج سار أبطال الانتفاضة وفضحوا وأظهروا للعالم أجمع وللمنظمات الحقوقية والمُدافعين عن حقوق الإنسان مُعانات الشعب الصحراوي من داخل زنازن السجن لكحل الرهيب عن طريق تلك الصور التي هزت العالم قاطبة وهزت النظام الملكي هزة الزلزال، وعلى نفس المنهاج أيضاً سار المناضل "أعلي سالم التامك" واتهمه العدو المُحتل بالجنون، وفعلاً لم يُنكر "أعلي سالم" أنه مجنون فعلاً بحُبّ الوطن وعدالة القضية الصحراوية ومجنون بحُبّ الإستقلال، وهذا إن كان فعلاً جنون فقد وقف الشعب الصحراوي عامة وأعلن جُنونه بحب قضيته والدفاع عنها حتى الشهادة، وهو ما يُجسّدُهُ الشعار الذي يُردّدُ صباح مساء وفي كل وقت "كل الوطن أو الشهادة"، وعلى نفس المنهاج تسير المرأة الذهبية "آمنتو حيدار" التي وهبتْ حياتها منذ نعومة أظافرها لخدمة القضية الوطنية، فمنذ سنة 1987 وهي تـُعاني الإختطافات المتواصلة والتعذيب بشتى أنواعه والتنكيل والتشريد والحرمان... كل ذلك لم ولن يُثنيها عن نضالها وكفاحها وخدمة قضيتها العادلة، بل وهاهي الآن تفرض انتصارها على آلة القمع المغربية الجبانة بجولتها عبر العالم، لتـُظهر له حجم معانات الشعب الصحراوي الأعزل تحت وطأة المحتل الغاشم، وعلى نفس النهج والمنهاج يسير أبطال الإنتفاضة من نشطاء حقوقيين ومدنيين كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً، والمعتقلين السياسيين الأبطال ورغم ما يُعانونه داخل زنازن المحتل من تعذيب نفسي وجسدي، إلا أنه لم ولن تثنيهم صلابة القضبان ولا سُمك الجُدران وعتمة الزنازن عن مُواصلة درب الإنتفاضة، فهم يُناضلون حتى وهم داخل السجون بإضرابهم البُطولي عن الطعام، شعارهم في ذلك "إما الحرية أو الشهادة"، فيما تبقى الإنتفاضة مُتواصلة هاتفة بصوت الوحدة الوطنية: << لاتراجع.. لا استسلام المعركة إلى الأمام >>؛ وطبعاً كل هذه الأساليب الحضارية التي تنتهجها انتفاضة الإستقلال لم ولن ترُق للعدو المُحتل الغاشم الذي لم يدخر جهداً لإقبارها ولكنه لم يجني أي نتائج في ذلك، حاله حال المثل الحساني القائل: << مابْخل شي ولا أزا شي >>.
وتبقى انتفاضة الإستقلال هي السبيل والطريق الأقرب والمُختصر نحو الكرامة والحرية والإستقلال التام.
كتب في: 17 يونيو 2006
بقلم: محمد هلاب
- "حرفة بوك لا يغلبوك"..
فمنذ اعتلائه العرش سنة 1999 رحّب الشعب المغربي عامّة بالعهد الجديد، وخاصة بعد سماع الخطابات والدعايات الرنانة الجديدة، فرحت الصحافة الحرة المستقلة التي عانت زمن الملك الراحل، فرحت المعارضة، وفرح الشعب الصحراوي الذي ظن أن عصر الإحتلال والتعنت قد ولى إلى الأبد ودُفن مع "الحسن الثاني"، وفرح فرحاً شديداً لظنه أن الفرج قد حان، لأنه قد أتى الملك الذي لطالما شـُوهد حزيناً ولم تعلوا وجهه ابتسامة قط عندما كان يجلس إلى جانب والده عند إلقائه خطاباته، حيث كان يعتقد الجميع وخاصة الشعب الصحراوي والشعب المغربي المسكين أن حُزن ولي العهد آنذاك ناتجٌ عن عدم رضاه باحتلال والده للصحراء الغربية، وعن عدم رضاه بالقمع والتنكيل والتعتيم ومُصادرة الحُريات إلى غير ذلك من الجرائم التي كان يرتكبها الملك الراحل؛ إلا أن المفاجأة الكبرى كانت أن الملك الجديد سُرعان ما تبين أنه كان خلفاً أميناً لسلفه، وأنه سُرعان ما طبّق المثل الحساني القائل: << حرفة بوك لا يغلبُوك >>.
فبسرعة البرق كشـّر الملك الجديد عن أنيابه وأظهر قدرة فائقة في منافسة الوالد، بل إن الدّرب هذه المرة في العهد الجديد أخطر وأشد، لأنه يتستر ويدفن رأسه كالنعامة باسم القانون - وأي قانون؟؟!!- فبدل الاختطاف والاعتقال دُون محاكمات، والاغتيال من خلف الستار... أصبح كل ذلك الآن في زمن الملك "محمد السادس" مُشرّعاً، بل ومحْمياً من طرف ما يُدعى أنه قانـُـــون، - وأي قانون؟؟!!-.
فمنذ أن جلس على كرسي العرش، أول ما بدأ به الملك وجرّب فيه "ديمقراطيته" التي زعم، وأول ما استعرض فيه قواه وعضلاته هو الصحراء الغربية، وذلك بعد اعتلائه العرش بشهرين فقط، وقبل أن يعزل وزير داخلية والده "إدريس البصري" عندما أمره بقمع انتفاضة العيون المجيدة 1999، هذه الإنتفاضة الباسلة التي وجدها الملك سبباً ومناسبة كان ينتظرها بفارغ الصبر ليعزل من خلالها "البصري"؛ هذا الأخير الذي وبأمر مباشر من "محمد السادس" قمع وضرب وعذب واعتقل وشرد ونال من مختلف شرائح المجتمع الصحراوي في المناطق المحتلة وجنوب المغرب وفي المواقع الجامعية المغربية من طلبة، معطلين، حملة الدبلومات والشهادات العليا، تلاميذ، معاقين، أطفال، شيوخ، نساء ورجال ... ليقف الملك بعد أن فضح أمره وبعد أن استعصى عليه قمع وثني الشعب الصحراوي المنتفض عن مطالبه المشروعة المتمثلة في تقرير المصير والحرية والاستقلال التام، وبعد سماعه ربما (أي الملك) لواحد من شعارات الانتفاضة آنذاك القائل: << لا إله إلا الله.. البصري عدو الله >>.
ولتضليل الرأي العام والكذب على العالم أجمع والصحراويين المنتفضين قام الملك بتحقيق أمنيته وأخذ الثأر من غريمه المسكين "إدريس البصري" بدعوى أنه حقق للصحراويين ما يُريدونه، لكن في الحقيقة عزل "البصري" لم يكن مطلب الصحراويين لأن عزله أو تركه لا يعنيهم في شيء بتاتاً، فـ "البصري" من المغرب وإلى المغرب، ولا علاقة للمغرب لا بالصحراء ولا بالصحراويين؛ والأخطر من ذلك وبهذا الحكم أرجع الملك "محمد السادس" القضية الصحراوية أكثر من عشرين سنة إلى الوراء، لأن "إدريس البصري" كان آنذاك المُكلف بملف الصحراء الغربية، وبهذا الحُكم المقصود أبان الملك الشاب على خلاف ما كان متوقعاً منه عن نيته في عدم تسليم الحق لأصحابه، وظهر جليّاً أن حُزنه الدائم في عهد والده ما هو إلا حُزن بسبب انصياع والده وسعيه التارة تلو الأخرى لحل نزاع الصحراء الغربية.
- العهد الجديد والحريات..
وعلى إثر هذه الخلفيات جاءت الجمْعيات الحقوقية المغربية والصحافة لتمارس مهنتها، إلا أنها للأسف وجدت أمامها ما لم تكن تتوقعه من العهد الجديد الذي وعد بالديمقراطية والحرية، فاعتـُقل الصحفيون، وصُودرت الآراء، ومُنع العديد من الصحف والمقالات من الصدور، وحُظرت المُذكرات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: المذكرة التي كتبها الأستاذ "عبد السلام ياسين" زعيم "حركة العدل والإحسان" بالمغرب المعنونة بـ "مذكرة إلى من يهمه الأمر"، كما حُظرت مذكرات "مليكة أوفقير" والتي تحمل عنوان "حيوات مسلوبة: عشرون عاماً في سجن بالصحراء"، هذه المُذكرات التي كانت ضمن أعلى الكتب رواجاً في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تصف فيها الكاتبة كيف سُجنت عائلتها كلها لما يقارب العقدين من الزمن للإنتقام منها بسبب محاولة انقلاب قام بها والدها "محمد أوفقير"، الذي كان وزيراً للداخلية عام 1972.
كما منع نظام "محمد السادس" صُحف "لوجورنال" الصادرة بالفرنسية، و"الصحيفة"، وصحيفة "دومان"، وغيرها من الصحف المغربية التي أرادت الكتابة والخوض في حقيقة النظام المغربي وحقوق الإنسان به، ولما عادت جريدة "لوجورنال" إلى الصدور تحت اسمها الجديد المختلف قليلا "لوجورنال إيبدو" حُكم على مدير نشرها السيد "بوبكر الجامعي" بالسجن ثلاثة أشهر، وعلى مديرها العام السيد "علي عمار" بالسجن شهرين وبغرامة مالية كبيرة لكل منهما، وجاء الحُكم بناءً على دعوى التشهير التي رفعها وزير الخارجية المغربي "محمد بنعيسى" بسبب مقالات نـُشرت سنة 2000 تتهمه بتبديد الأموال العامة في صفقات عقارية خلال توليه منصب سفيراً للمغرب بالولايات المتحدة الأمريكية، وحُكم على السيد "علي لمرابط" مُحرر مجلة "دومان" بالسجن أربعة أشهر وبغرامة مالية بتهمة أنه نشر مقالا في "الصحيفة" حول احتمال بيع أحد القصور الملكية؛ كما مُنع كذلك (أي علي لمرابط) من مزاولة العمل الصحفي عشر سنوات وفرضت عليه غرامة مالية كبيرة ونفي إلى الخارج، بعد أن أدانته الحكومة المغربية بمخالفة قانون العقوبات وقانون الصحافة، والحقيقة أن القضية ترجع إلى التقرير الذي كتبه بعد الزيارة التي قام بها في 2004 إلى مخيمات اللاجئين الصحراويين، التقرير الذي أفاد فيه بأن الصحراويين المُقيمين في اللجوء هم لاجئون وليسوا مُحتجزين كما تدّعي حكومة الرباط، الشيء الذي لم يرق للنظام المغربي مما أدى إلى الحكم عليه هكذا ظلماً وعدواناً.
- "عولمة" المعتقلات السرية..
والأكثر من هذا والأخطر والذي لا يتماشى إطلاقاً مع ما دعا إليه ملك المغرب الشاب من ديمقراطية وحقوق للإنسان، هو أن المغرب الآن يحتوي على مراكز اعتقال سرية تحت تصرف "سي أي إيه"، وهذا ما كشف عنه العديد ممن اعتقلوا في هذه المخافر وخاصة بعد أحداث الـ11 من سبتمبر2001، كما صرحوا بأنهم استنطقوا على أيادي مُحققين مغاربة، ومن بين هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر الإثيوبي "بنيام محمد الحبشي" الذي قال أنه نـُقل جوا إلى المغرب من طرف المسؤولين الأمريكيين في يونيو 2002، كما قال بأنه اعتقل في المغرب لمدة ثمانية عشر شهراً بمعزل عن العالم الخارجي، وتعرّض للتعذيب من طرف محققين مغاربة بأمر من السلطات الأمريكية؛ وحالة المواطن الألماني "محمد حيضر زمّار" الذي صرّح على لسان صحيفة ألمانية أنه تعرض للتعذيب بالمغرب على يد مغاربة وأمريكيين؛ كما أكدت العديد من المصادر أن أكثر من 18 مغربياً من بين معتقلي "غوانتانامو" ومن ضمنهم "عبد الله تابرك" الحارس الشخصي لـ "أسامة بن لادن" استنطقوا من طرف محققين مغاربة.
- "إن الملوك إذا...."
كل هذا وغيره كثير وكثير جدا لم يذكر تعجز الألسن عن حصره يدل على أنه لاشيء تغير في المغرب، اللهم أنه قد رحل ملك وخلفه ملك، و"الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها..." وهذا فعلا ما وقع ويقع في المغرب، وهذا ما دفع بالسيدة "نادية ياسين" ابنة الشيخ "عبد السلام ياسين" زعيم جماعة العدل والإحسان إلى القول: << بأن الملكية غير شرعية >>، ولتطالب بأن يُصبح المغرب جمهورية بأحزاب حرة متنافسة بدون ملك.
وما تعيشه المناطق المحتلة من الصحراء الغربية ومناطق جنوب المغرب منذ اندلاع انتفاضة الاستقلال بتاريخ 21 مايو 2005 إلى حد الساعة، بل إلى أن تنال هذه الإنتفاضة الشعبية العارمة الهدف الذي من أجله سميت، ألا وهو الإستقلال، والذي أصبح قاب قوسين أو أدنى، ولم يكن اختيار أبطال هذه الإنتفاضة لهذا الإسم عبثاً، بل هو آخر اسم لانتفاضة يخوضها الشعب الصحراوي قبيل الاستقلال، وهي من خلال الاسم، الإنتفاضة الفيصل بين الباطل والحق وبين ظلمات الإحتلال ونور الإستقلال، وذلك يتضح ويتبيّن جلياً إذا ما وقفنا قليلاً وبتمعن عند المكاسب التي حققتها الانتفاضة في ظرف وجيز لايتعدى 16 شهراً تقريباً، هذه الانتفاضة التي زادت من شدة ارتباك المُحتل المغربي وجرّت ذيول هزائمه إلى داخل ترابه من خلال نضالات الطلبة الجامعيين الصحراويين، وهزيمته على المستوى الدولي عموماً، وخاصة في مجال حقوق الإنسان.
- انتفاضة الاستقلال..
وفندت انتفاضة الاستقلال كل الأطروحات التي طالما تشدق بها النظام المغربي وكذب بها على العالم؛ وإلى زمن قريب جداً قبل اندلاع الانتفاضة لم تكن أغلب دول العالم تـُحرك ساكناً حُيال الوضع في الصحراء الغربية، اللهم إذا استثنينا الدول الصديقة والمتعاطفة مع القضية الصحراوية، ومع حلول الـ 21 من مايو 2005 تبين للعالم أجمع سواءٌ منه المُتعاطف مع القضية الصحراوية أو الذي منه مع الأطروحات المغربية، تبين للكل وبفضل انتفاضة الاستقلال الباسلة أن كل ما كان يزعمه المغرب ويدّعيه ويتشدق به ما هو إلا كذبٌ في كذب، وما هي إلا أوهامٌ وأحلامٌ زائلة لا محال كما كانت أحلامه في عهد ملكه الراحل "الحسن الثاني"، حيث كان يحلم بأنه سيحكم مغرباً حدوده شمالاً من طنجة إلى نهر السينغال جنوباً، الشيء ما فنده جيش التحرير الشعبي الصحراوي البطل أثناء حرب الصحراء الغربية من 1975 إلى 1991، عندما أجبر النظام المغربي آنذاك على التسليم للأمر الواقع والإستيقاظ من الأحلام، وهذا ما تسيرُ عليه حاليّاً انتفاضة الاستقلال التي برهنت للعالم أجمع أن الشعب الصحراوي انتقل فعلاً بأسلوب حضاري من "المقاومة المسلحة" إلى "المجتمع المقاوم"، وهذه النقلة والقفزة النوعية هي ما زادت من جنون النظام الملكي المغربي بعد أن يئس من محاولة إجهاض الإنتفاضة وقمعها، حيث أنه يُحاول جاهداً وبكل ما أوتي من قوة أن يًحولها من السلمية إلى العنيفة، الشيء الذي لم يفلح إلى حد الساعة في تحقيقه، وذلك بفضل إصرار أبطال الإنتفاضة على مواصلتها انتفاضة حضارية ومواصلة أمجادها وكل حيثياتها سلمياً رغم ما يُلاقونه وبشكل يومي على أيادي الجلادين المحتلين من تنكيل وتعذيب نفسي وجسدي وقمع وتشريد واعتقال... إلا أنهم يظلون دائماً مُتفوقين في تحديهم السلمي البُطولي غير آبهين بما يلاقونه من طرف الجلادين، فأصبح علم "الجمهورية الصحراوية" مرفوعاً خفاقاً وبشكل دائم ليلاً نهاراً جهاراً على كل شبر من أرضنا الطاهرة، ويأبى أبطال الإنتفاضة أن يسقط العلم الصحراوي ويستميتون في الدفاع عن بقائه مرتفعاً خفاقاً عالياً رغم أنف المُحْتلين، وهو ما سقط من أجله في ريعان شبابه "حمدي لمباركي" في 30 من أكتوبر 2005 شهيداً على نهج الشهيد "الولي مصطفى السيد" شهيد الحرية والكرامة وكل شهداء القضية الوطنية الذين عبّدُوا بدمائهم الزكية طريق الحرية والاستقلال؛ وعلى نفس النهج سقط الشهيد "لخليفي أبا الشيخ"، وعلى نفس النهج وإيماناً منه بالمقولة الثورية التاريخية للمناضل "أرنستو تشي جيفارا" التي تقول: << هذا الطريق مظلم وحالك.. فإذا لم تحترق أنت ولم أحترق أنا فمن سينير الطريق؟ >> هكذا أنار الرفيق الشاب "السالك السعيدي" الطريق ونذر جسمه شمعة يُنيرُ بها طريق ودرب انتفاضة الإستقلال، وعلى نفس النهج سار أبطال الانتفاضة وفضحوا وأظهروا للعالم أجمع وللمنظمات الحقوقية والمُدافعين عن حقوق الإنسان مُعانات الشعب الصحراوي من داخل زنازن السجن لكحل الرهيب عن طريق تلك الصور التي هزت العالم قاطبة وهزت النظام الملكي هزة الزلزال، وعلى نفس المنهاج أيضاً سار المناضل "أعلي سالم التامك" واتهمه العدو المُحتل بالجنون، وفعلاً لم يُنكر "أعلي سالم" أنه مجنون فعلاً بحُبّ الوطن وعدالة القضية الصحراوية ومجنون بحُبّ الإستقلال، وهذا إن كان فعلاً جنون فقد وقف الشعب الصحراوي عامة وأعلن جُنونه بحب قضيته والدفاع عنها حتى الشهادة، وهو ما يُجسّدُهُ الشعار الذي يُردّدُ صباح مساء وفي كل وقت "كل الوطن أو الشهادة"، وعلى نفس المنهاج تسير المرأة الذهبية "آمنتو حيدار" التي وهبتْ حياتها منذ نعومة أظافرها لخدمة القضية الوطنية، فمنذ سنة 1987 وهي تـُعاني الإختطافات المتواصلة والتعذيب بشتى أنواعه والتنكيل والتشريد والحرمان... كل ذلك لم ولن يُثنيها عن نضالها وكفاحها وخدمة قضيتها العادلة، بل وهاهي الآن تفرض انتصارها على آلة القمع المغربية الجبانة بجولتها عبر العالم، لتـُظهر له حجم معانات الشعب الصحراوي الأعزل تحت وطأة المحتل الغاشم، وعلى نفس النهج والمنهاج يسير أبطال الإنتفاضة من نشطاء حقوقيين ومدنيين كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً، والمعتقلين السياسيين الأبطال ورغم ما يُعانونه داخل زنازن المحتل من تعذيب نفسي وجسدي، إلا أنه لم ولن تثنيهم صلابة القضبان ولا سُمك الجُدران وعتمة الزنازن عن مُواصلة درب الإنتفاضة، فهم يُناضلون حتى وهم داخل السجون بإضرابهم البُطولي عن الطعام، شعارهم في ذلك "إما الحرية أو الشهادة"، فيما تبقى الإنتفاضة مُتواصلة هاتفة بصوت الوحدة الوطنية: << لاتراجع.. لا استسلام المعركة إلى الأمام >>؛ وطبعاً كل هذه الأساليب الحضارية التي تنتهجها انتفاضة الإستقلال لم ولن ترُق للعدو المُحتل الغاشم الذي لم يدخر جهداً لإقبارها ولكنه لم يجني أي نتائج في ذلك، حاله حال المثل الحساني القائل: << مابْخل شي ولا أزا شي >>.
وتبقى انتفاضة الإستقلال هي السبيل والطريق الأقرب والمُختصر نحو الكرامة والحرية والإستقلال التام.
كتب في: 17 يونيو 2006
بقلم: محمد هلاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق